لماذا تخرج مجموعات المهاجرين الفرنسيين المسلمين في حشود عنف ليلية تحرق خلالها السيارات والمحال التجارية بل وحتى المدارس، فيما يصل إلى 300 ضاحية ومدينة على امتداد فرنسا كلها؟ إجابات ثلاث توفرت على هذا السؤال حتى الآن، هي التمييز ضد المهاجرين المسلمين ومشكلة البطالة، إلى جانب التطرف والهوس الديني· وفي التصدي لكل واحدة من هذه المشكلات، هناك عدة مقترحات وحلول مقدمة، لتفادي حدوث المزيد من أعمال العنف والشغب، بل والحيلولة دون تجاوزها للحدود الفرنسية· ووفقاً للتفسير الأول للأحداث، فهناك من يردها إلى الإقصاء الذي يتعرض له المهاجرون المسلمون، والذي يحول دون مشاركتهم في الحياة الفرنسية العامة، تماماً مثلما حدث في الولايات المتحدة خلال عقد الستينيات، عندما اندلعت أعمال الشغب والعنف من قبل الأميركيين السود، جراء الشعور الحاد بوطأة التمييز العنصري الممارس ضدهم على امتداد سنوات طويلة·
وإذا ما صح هذا التفسير، فإن السبيل الوحيد الذي تستطيع أن تسلكه فرنسا في معالجة هذه المشكلة، هو ذاته الذي سبق للولايات المتحدة أن سلكته طوال الأربعة عقود الماضية· ويتمثل هذا السبيل في بذل جهود كبيرة جبارة، تستهدف خصيصاً إدماج الأميركيين السود في مؤسسات وبنى وهياكل المجتمع الأميركي الرئيسية، عبر برامج محددة صممت خصيصاً لهذا الغرض، سواء في مجالات التعليم والتدريب، أم عبر مجموعة البرامج الهادفة إلى ترجمة ''قانون الفعل الإيجابي'' إلى واقع عملي يومي معاش ،يتم فيه إدماج السود وإشراكهم في كافة تفاصيل حياة المجتمع الأميركي ومؤسساته الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها·
صحيح أن جانباً من مشكلة تطبيق هذا النهج في فرنسا، أن الأخيرة لن تسعد بتطبيق وتبني نموذج للإصلاح، مستمد من التجربة والتاريخ الأميركي· غير أن المشكلة الأكبر والأهم من هذا، أن باريس لم تبد يوماً أدنى استعداد للاعتراف بمبدأ التعدد العرقي والثقافي والديني في مجتمعها· ذلك أن المبدأ العام الذي تسير عليه فرنسا هو أنها تعامل جميع مواطنيها على قدم المساواة، بصرف النظر عن خلفياتهم العرقية أو الدينية أو الثقافية· ومن سخرية الأقدار أن الشخصية القيادية الفرنسية البارزة، التي بصمت على سياسات إقصاء المهاجرين المسلمين والتمييز ضدهم، هو نيكولا ساركوزي وزير الداخلية، الذي ساءت سمعته كثيراً في أوساط المهاجرين المسلمين، بسبب تشدده ضد المشاركين في أحداث العنف الأخيرة، ووصفهم صراحة بأنهم مجرد ''حثالة''!
أما التفسير الثاني فيرد أحداث الشغب والعنف تلك، إلى مشكلة البطالة المزمنة المتفشية بين شباب المهاجرين المسلمين، علماً بأنها تصل إلى نسبة 50 في المئة في بعض الضواحي والمدن الفرنسية· والسبب الرئيسي وراء هذه المشكلة هو النظام الاجتماعي الاقتصادي الفرنسي نفسه· والمعلوم عن هذا النظام، أنه يقدم فوائد أكبر بما لا يقاس إلى نظيره الأميركي لمواطنيه، عبر فرض معدلات ضريبية أعلى بكثير، وكذلك من خلال التقيد الصارم بقوانين وقواعد عمل أشد في ردعها لفصل العاملين والموظفين من مهنهم· ولكن مشكلة هذه القوانين، أنها تضع عراقيل كبيرة أمام توظيف العمالة الجديدة· والنتيجة النهائية هي تمتع الأغلبية بحياة سهلة مريحة، ولكنها تنعكس على الاقتصاد القومي كساداً وعجزاً عن إيجاد الوظائف الجديدة·
وعلى الرغم من الاعتراضات الكبيرة التي تبديها فرنسا إزاء تبني أي من الحلول التي قدمتها التجربتان الأميركية والبريطانية لكلتا المشكلتين المشار إليهما، فإن في وسعها تبني حلولها الخاصة إن جدت فعلياً في حلهما والتصدي لمخاطرهما·
إلى ذلك نصل إلى التفسير الثالث والأخير الذي رد الأحداث سابقة الذكر، إلى ظاهرة التطرف والهوس الديني، بل تحديداً إلى كراهية المتشددين الإسلاميين للغرب عموماً، وهي نفسها الكراهية التي تفسر هجمات التيار إياه على كل من مدينتي نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر ،2001 وكذلك على العاصمة الإسبانية مدريد في مارس من العام الماضي ،2004 ثم الهجمات التي شهدها نظام مترو الأنفاق بالعاصمة البريطانية لندن، في يوليو من العام الحالي· والوصفة الوحيدة التي يمكن تبنيها في التصدي لهذا التيار، هي الصراع المرير الطويل الأمد ضد هذه الأيديولوجية التي ينتمي أهلها إلى فرنسا ويحملون جنسيتها ويواصلون الإقامة فيها! وعلى الرغم من أنه يصعب استبعاد مشاعر الكراهية للغرب باعتبارها أحد الأسباب الرئيسية وراء ما حدث، فإنه يصعب بالقدر ذاته استبعاد عامل الكرامة الإنسانية وتوفير الحياة الكريمة اللائقة بشباب المهاجرين المسلمين، وتوظيفهم إلى جانب تحسين أجور العاملين منهم، كعامل رئيسي آخر بين العوامل التي أدت إلى ما حدث· ومع العلم بأنه ليس في مقدور الوظائف وحدها حل المشكلة ووضع حد لعنف هذا التيار، إلا أن توفيرها يمثل الخطوة الضرورية اللازمة لإزالة التمييز والتفرقة بين المواطنين الفرنسيين· وربما تسهم هذه الخطوة على المدى البعيد، في تجسير الفجوة القائمة الآن، ما بين المجتمع ا