في خطبه الأخيرة المتعلقة بالسياسة الخارجية، قام بوش بتحويل بؤرة اهتمامه من مشكلات بعينها مثل مشكلتي العراق وأفغانستان، إلى إشكالية أوسع نطاقا وهي تلك الخاصة بتعزيز الديمقراطية والحرية عبر العالم· وهو -على ما يبدو- يعتقد أن نمو الديمقراطية أمر حتمي ، في حين أن الحقيقة غير كذلك·
فلنأخذ مثلا الدول التي تقوم بإجراء انتخابات حرة· لقد لاحظ السيد بوش أن عدد تلك الدول قد ارتفع من 40 دولة عام 1970 إلى 120 دولة مع نهاية القرن الماضي· إن ذلك يمثل بلا شك مكسبا يدعو للإعجاب، ولكن تحقيق مثل هذا المكسب لم يتطلب الانتخابات فقط، وإنما تطلب أيضا شيئا أكثر أهمية بكثير، ألا وهو وجود نظام انتخابي يوفر تمثيلا عادلا نسبيا للجماعات المهمة صاحبة المصلحة في كل دولة من الدول، ووجود نظام قضائي مستقل، يستحق، ويحظى فعلا، بالدعم الشعبي عند قيامه باتخاذ قرارات قد لا تحوز على رضا بعض الجهات المتنفذة·
لقد قام الرئيس بوش بمعارضة ما يذهب إليه البعض حول عدم استعداد بعض الدول لتطبيق الديمقراطية قائلا إن ذلك الاستعداد يأتي مع الوقت· وهنا أقول له إن الأمر يختلف عندما نبدأ من نقطة الصفر، لأن تحقيق الديمقراطية في هذه الحالة سوف يحتاج إلى الكثير من الممارسة والكثير من الوقت·
لقد أشار بوش-ولكنه لم يقترح حلا- للإشكالية الخاصة بدعم الطغاة في مقابل دعمهم لسياسات أميركا سواء في الأمم المتحدة أو في أماكن أخرى، مع أن ذلك الدعم يؤدي إلى إعاقة تحقيق الديمقراطية، لا إلى دعمها ·
فخلال الحرب الباردة تلقت الكثير من الحكومات غير المقبولة شعبيا مساعدات أميركية في مقابل تبنيها لسياسات مناوئة للاتحاد السوفييتي· وخلال حملة بوش الحالية من أجل الديمقراطية، تتلقى العديد من الدول غير الديمقراطية دعما سياسيا أميركيا مقابل قيامها بمؤازرة سياسات أميركا المناوئة للإرهاب·
من الإشكاليات الأخرى التي ينبغي تناولها هنا إشكالية حقوق الإنسان· ومما يذكر في هذا الصدد أن مجلس الحكم العراقي قد قام في الآونة الأخيرة بمنع قناة العربية الفضائية من البث من العراق لأنها أذاعت شريطا صوتيا لصدام حسين، وهو القرار الذي حظي بموافقة بول بريمر كبير المسؤولين الأميركيين في العراق،على رغم أنه يمثل خرقا واضحا لحرية الصحافة التي تعتبر عنصرا جوهريا لازما للانتخابات الحرة· وفي الحقيقة أن الرقابة المفروضة على البث التلفزيوني على وجه الخصوص تعد باعثة على السخرية، وخصوصا أنها قد حدثت بعد مرور أسبوع واحد فقط على زيارة بوش للندن، والتي وصف خلالها التظاهرات التي خرجت ضده بأنها ليست سوى حرية تعبير يمارسها أصحابها بحماس، كما ألمح إلى أن الناس في بغداد أيضا قد أصبحوا يتمتعون بهذا الحق الآن ·
ولكن مما يؤسف له أن بوش لم يستمر طويلا على موقفه· ففي قصر وايت هول، قال بوش إن المثالية التي جلبها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون لأوروبا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، قد أخفقت في الحيلولة دون وقوع الحرب العالمية الثانية لأن عصبة الأمم التي كانت قائمة آنذاك كانت تفتقر إلى المصداقية والإرادة· في الحقيقة أن الشيء الوحيد الذي كانت تفتقر إليه تلك المنظمة هو أن أميركا لم تكن عضوا فيها· أما الاستنتاج الذي توصل إليه بوش بوضوح على ما يبدو فهو أن قيادته هي التي منحت الأمم المتحدة الشيء الذي كانت تفتقر إليه عصبة الأمم·
لقد كان رفض الرئيسويلسون للتوصل إلى حل وسط، أو إلى اتفاق مع مجلس الشيوخ الأميركي، هو الذي أبقى أميركا خارج عضوية عصبة الأمم·
وعلى المنوال نفسه يمكن القول إن رفض بوش للتوصل إلى تسوية، أو إلى حل وسط مع مجلس الأمن الدولي هو ما تركه وحيدا هو وبلير في العراق·
وهناك وجه شبه آخر بين ويلسون، وبين بوش يتمثل في أن الرجلين قد تبنيا رؤية رسولية للعالم تقوم على نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط وما وراءه، بالنسبة لبوش، وفي المكسيك بالنسبة لـويلسون·
وكانت لحظة الاختبار الحقيقي التي واجهها ويسلون قد جاءت عندما استولى فيكتوريانو هويرتو على السلطة بالقوة ونصب نفسه رئيسا خلال الثورة المكسيكية، وهو ما كان يمثل في ذلك الوقت ضربة موجهة لما كان يعرف بـوثيقة فرجينيا للحقوق التي كان يتبناها ويلسون· وإثر ذلك قام ويلسون بالتدخل في المكسيك لخلع هويرتو ولمنح المكسيكيين الفرصة لأن يجربوا حكم أنفسهم، كما ادعى آنذاك·
ومما يذكر في هذا السياق أن وولتر هاينز بيج سفير أميركا في لندن وجد نفسه في ذلك الوقت مطالبا بالإجابة على عدة تساؤلات وجهها إليه وزير الخارجية البريطاني إدوار جراي الذي قال له : فلنفرض أنكم -يقصد الأميركيين- قد وجدتم أنفسكم مضطرين للتدخل، فماذا بعد؟ فرد عليه السفير قائلا: سنجعل المكسيكيين يصوتون على ذلك ويختارون النظام الذي سيعيشون بموجبه وفقا للقرارات التي سيتخذونها· وسألهجراي سؤالا آخر: ولكن افترض أن ذلك لن يحدث· فكان رد السفير هو: في هذه الحالة سوف نتدخل في المكسيك مرة ثانية· وعندما عاد وزير الخارجية البريطاني لسؤاله مرة ثانية: ولكن هل ستظل