مما يستحيل نسيانه أو محوه من ذاكرة حرب فيتنام، صورة تلك الفتاة الفيتنامية العارية تماماً، والتي كانت تتلوى ألماً وقد احترق جسمها أثناء ركضها في أحد الشوارع عام ·1972 كانت ''كيم بهوك'' قد اضطرت لتمزيق الملابس التي ترتديها بسبب احتراقها، على إثر إلقاء طائرة فيتنامية جنوبية عن طريق الخطأ، قنبلة حارقة من قنابل النابالم المصنوعة من هلام الجازولين في بيتها· وكان هذا الخطأ غير المقصود في استخدام هذا السلاح الحارق ضد المدنيين -كما جسدته الصورة الرمزية الخالدة التي التقطتها كاميرا المصور نك أوت- قد ساعد كثيراً في قلب اتجاه الرأي العام وتوجيهه ضد الحرب· واليوم وبعد انقضاء ما يزيد على ثلاثة عقود بعد تلك الحادثة، ها هي الولايات المتحدة الأميركية تواجه عاصفة انتقادات جديدة، لها صلة باستخدامها للفسفور الأبيض أثناء معركة الفلوجة التي جرت في شهر نوفمبر من العام الماضي· والمعروف عن الفسفور الأبيض، أو كما يكنى اختصاراً WP أنه يشتعل تلقائياً لدى تعرضه للهواء، ثم يواصل احتراقه الشرس ما لم يمنع عنه الأكسجين·
ولذلك فقد كان من الخطأ الفادح استخدام هذا السلاح الحارق ضد متمردي الفلوجة، حيث يتجاور المتمردون المسلحون والمدنيون الأبرياء، وذلك لثلاثة أسباب: أولها أن ذلك الاستخدام لم يكن أخلاقياً في الأساس، وثانياً لكونه سالبا ومضادا للأهداف الأميركية في العراق، وثالثاً وأخيراً، لكونه يعبر عن نفاق صارخ ومخز، لم يفعل شيئاً عدا استقطابه موجة عارمة من الغضب الدولي على الولايات المتحدة، واتهامها بأنها أداة التجنيد الأولى للجهاديين الإرهابيين· والآن دعنا نمضي قليلاً في تفصيل هذه الأسباب الثلاثة التي لخصناها آنفاً· أولاً السبب الأخلاقي؛ ذلك أن أبرز ما يميز الأمم والدول المتحضرة، رفضها خوض أنواع معينة من الحروب، إما لكونها حروباً ومعارك لا تمييز فيها بين مدني وعسكري، وإما لكونها تسفر عن معاناة وآلام فظيعة، لا تتناسب والقيمة العسكرية لخوضها· ومما يدخل في باب التحريم هذا، ما نصت عليه ''بروتوكولات معاهدة جنيف'' لعام 1925 من منع صريح لاستخدام الأسلحة البيولوجية والكيماوية على كافة الدول، بما فيها تلك التي لم تنضم إلى المعاهدة أو توقع عليها· ومن أسف أن تندرج الولايات المتحدة اليوم في قائمة دول تعد بأصابع اليد، تجاسرت على رفض المعاهدات الدولية التي تحرم الألغام الأرضية المضادة للبشر، وكذلك استخدام الأسلحة الحارقة -بما فيها الفسفور الأبيض والنابالم- في المناطق التي يتواجد فيها المدنيون·
أما السبب الثاني في تفنيد الخطأ المذكور، فهو تقويض جهود أميركا التي تبذلها من أجل كسب عقول وقلوب العراقيين· فباستهانتها بأرواح وحياة المدنيين الأبرياء هناك، وإطلاقها الأسلحة الحارقة عليهم، إنما تؤكد واشنطن صورة ''الشيطان الشرير'' التي يرسمها عنها الإرهابيون الجهاديون، وبالتالي تدعم جهودهم ومسيرتهم القتالية ضدها، بما يستقطب لهم المزيد والمزيد من الجهاديين· إلى ذلك نصل إلى السبب الثالث والأخير، المتمثل في رفض الولايات المتحدة الانصياع للمعاهدات والمواثيق الدولية التي تحرم استخدام الفسفور الأبيض وغيره من المواد الحارقة حيث يتواجد المدنيون· وبهذا الرفض، إنما تمارس واشنطن نوعاً من ازدواج المعايير الوقح الذي لا يستسيغه ولا يفهمه المجتمع الدولي! ولا شيء يغير موقف الرأي العام العالمي الرافض لاستخدام الفسفور الأبيض في حروب المدن والمناطق الحضرية، سواء أطلق من طائرات مقاتلة أم استخدمته وحدات المدرعات· فالأمر سيان والموقف واحد لا يتغير·
ولنذكر هنا أن أحد المبررات الرئيسية التي ساقها جورج بوش لتبرير حربه على العراق عام ،2003 هو استخدام صدام حسين للغازات السامة ضد مواطنيه، في انتهاك صارخ لبروتوكولات معاهدات جنيف المذكورة، إلى جانب ما قيل عن امتلاكه أسلحة دمار شامل، وتحد لمقررات المجتمع الدولي وإرادته! والسؤال الملح الآن: هل تتمكن أميركا من كسب معركة العقول والقلوب بالنفاق؟
ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست