بالأمس تسلم الدكتور محمد البرادعي، مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، جائزة نوبل للسلام- التي فاز بها هو ووكالته معاً- في مراسم احتفال أقيمت بالعاصمة السويدية أوسلو· وقد فسر كثيرون هذا الحدث، كما لو كان تصويتاً على تسوية للمواجهات والمعارك الحامية التي تم خوضها في إطار الحد من انتشار الأسلحة النووية، إضافة إلى كونه تقريظاً للمنحى السلمي الذي فضله البرادعي بالذات· غير أن أي تفسير من هذا النوع، أو أي قراءة سياسية قاصرة لنيل الوكالة للجائزة، إنما يقلل من دورها وأهميتها كوكالة معنية بالرقابة الدولية على انتشار الأسلحة النووية· وكي تؤدي الوكالة عملها أحسن ما يكون الأداء في مجال الرقابة والكشف عن السلوكيات النووية غير القانونية، فإنه يتعين عليها أن تضع استقلاليتها وحيادها نصب عينيها دائماً، شريطة ألا تقتصر مراعاة هذا الحياد على تعاملها مع الدول فحسب، بل تمتد لتشمل شتى استراتيجيات السيطرة على الأسلحة النووية، التي تتخذها الدول· وما أن تؤدي الوكالة دورها في الكشف عن السلوكيات النووية السرية، ثم تلتزم حدودها عند ذلك الواجب، فإنها تكون بذلك قد وفرت على الأطراف الدولية الأخرى، قدراً عالياً من المناعة لممارسة دورها الدبلوماسي ولمواجهة تلك السلوكيات· وبذلك تكون الوكالة قد أسهمت مساهمة تفوق بكثير ما يمكن أن يحسب لها أو عليها، عند انحيازها لطرف ما أو لاستراتيجية ما من استراتيجيات المواجهة والضغط الدولي·
نذكر هنا أن جائزة نوبل للسلام، إنما تمنح ''تقديراً للجهود الرامية للحيلولة دون استخدام الطاقة النووية للأغراض العسكرية''· ولما كان الحال كذلك، فماذا كانت تلك الجهود على وجه التحديد؟ فالمعروف عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنها لا تستطيع إرغام أحد على شيء، ذلك أنها لا تملك جيشاً خاصاً بها تستطيع بواسطته السيطرة على ترسانات الأسلحة النووية، ولا هي بالقادرة على إيداع ترسانة دولة ما في مستودع حصين، تحتفظ لنفسها بمفتاحه· وبالقدر ذاته، لا تستطيع الوكالة إغراء أحد ما بالمقابل· فهي ليست لديها حوافز تقدمها للدول التي تعلن تخليها عن الأسلحة النووية· إلى ذلك فهي ليست منبراً دولياً تحل فيه مشكلات ومخاطر انتشار الأسلحة النووية· فقد جرت العادة أن تحل المخاطر خارج إطار الوكالة الدولية للطاقة الذرية· وعليه فإنه يمكن القول إجمالاً، إنه ليس في وسع الوكالة الدولية، الحيلولة دون استخدام الطاقة الذرية للأغراض العسكرية على نحو مباشر وملموس·
وعلى رغم هذه الحقيقة، فإن الواقع يقول إنه لا غنى عن الوكالة في القيام بهذه المهمة· فهي وحدها القادرة على الاضطلاع بما لا تستطيعه أي من الدول والجهات الدولية الأخرى، من ناحية تقديمها المعلومات الدقيقة الموثوقة، وغير المنحازة حول البرامج النووية، فضلاً عن كونها الجهة الوحيدة المخولة بالكشف عن تلك البرامج والدخول إلى المرافق النووية السرية وتفتيشها ورفع التقارير الموثوقة عنها· وكما نعلم فقد تمكنت الوكالة، خلال السنوات الثلاث الماضية، من تقديم معلومات دقيقة يعول عليها من داخل كل من إيران والعراق وكوريا الشمالية· وغني عن القول إنها معلومات لن يتسنى لأي دولة من دول العالم، الحصول عليها بمفردها، مهما كانت·
كما تمكنت الوكالة من الحصول على معلومات عن بعض الدول، صنفت على أنها لا تسعى لتطوير الأسلحة النووية، مثلما هو حال البرازيل وجنوب أفريقيا والمملكة العربية السعودية· وما أن ترتفع تكلفة مواجهة خطر الانتشار النووي، حتى تضاهي المعرفة الدقيقة الموثوقة بحقيقة موقف الدول غير الطامحة إلى تطوير الأسلحة النووية، أهمية تلك اللاهثة وراء تطوير الأسلحة موضوع الخوف والخطر· وبالقدر ذاته من الأهمية، فإن المعرفة الدقيقة بحقيقة الدول غير الطامحة لتطوير الأسلحة النووية، تساعد كثيراً في تثبيط همة وحماس الدول المجاورة لها، ممن كانت تسعى لتطوير برامجها النووية الخاصة، خوفاً من الخطر الذي ربما تمثله لأمنها دول الجوار· وبذلك تسهم الوكالة إسهاماً مقدراً ولا يعوض بثمن في الحد من خطر سباق التسلح النووي بين الدول·
خلاصة القول، فإنه لم يسبق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن أسهمت ولو لمرة واحدة فحسب، إسهاماً مباشراً في حل أزمة انتشار نووي· ومع ذلك فإنها تقدم من الإسهامات الجليلة والكبيرة في مجال الحفاظ على الأمن النووي، ما يؤهلها لنيل جائزة نوبل للسلام عن جدارة· ويمكن القول أيضاً إن الوكالة، تمثل نموذجاً للطريق الذي يجب سلوكه للحصول على المعلومات الصحيحة والموثوق بها، عن الوضع النووي في أي دولة من دول العالم· ذلك أنها تعتمد اعتماداً أساسياً على رغبة أي من هذه الدول في إقناع بقية دول العالم بخلوها من أي نوايا لتطوير سلاح نووي· وبما أن ذلك هو الحال، فعادة ما توجه الدولة المعنية، دعوة للوكالة بغرض تفتيش منشآتها وبرامجها النووية، مقابل رفع الوكالة تقارير صادقة ونزيهة ومحايدة عما يتم التوصل إليه عبر عمليات التفتيش· وفي حال رفض دولة من الدول المشتبه