يستمر الليل العراقي الطويل مظلماً وعنيفاً، يكدس الضحايا الأبرياء في مواجهات عبثية قوامها ثقافة الإقصاء والإلغاء. ومع انشغال الجسم السياسي العراقي باللعبة السياسية الطائفية وبدقائق أمورها، تسعى الجماعات التكفيرية والأصولية المتطرفة من جهة، والمليشيات المذهبية من جهة أخرى، إلى إذكاء نيران فتنة طائفية كبرى تغرق العراق في مواجهات محمومة وتسعى إلى خلط الأوراق لتحيد بعيداً عن العملية السياسية. ويتم ذلك كله على حساب ضحايا جلهم من الأبرياء الباحثين عن الأمن والسلامة في بلد لا يراد له أن يضمد جراحه وأن يواصل مسيرته وتقدمه. وفي هذه المتاهة المعقدة يضيع برنامج بناء الوطن الحديث والقائم على تعزيز قيم الانتماء والمساواة والمشاركة.
وتفجير ضريح الإمامين على الهادي والحسن العسكري في سامراء، حدث مخزٍ وعمل جبان يصب في مسار محاولات الأصولية التكفيرية لخلق مواجهة مذهبية تضمن أن العراق لن يخرج من أزماته الحالية لسنوات عديدة. وردود الفعل الطائفية بالهجوم على مساجد السنة، لاشك أنها تقع في وتيرة الحقد نفسه التي يريد أن يثيرها الإرهاب في خطته لجعل العراق بؤرة عدم استقرار وملعباً لتنفيس الأحقاد.
والمستغرب أن هذا الذي يجري أمامنا موقعه إحدى حواضر العرب الرئيسية، والتي عرفت بتجاور الملامح الدينية والاجتماعية وبالعيش المشترك للسنة والشيعة. فالعراق كما يقال حكمه السنة، ولكن ضمن ثقافة مظاهرها الأساسية شيعية، فنرى هذا المزار الشيعي العريق في محيط سكاني سني هم غالبية أهل سامراء عاصمة الخليفة العباسي المعتصم وملوية المتوكل، وفوق هذا نجد أن العراق، ومن خلال نهضة تعليمية مبكرة وتداخل وتنوع سكاني كبير، من المفترض أن يكون مثالاً عربياً رافضاً لعقلية الفرز والتكفير الضيقة. وبإذنه تعالى سيثبت من خلال هذه الأزمة أنه كما تصورناه، ونسند هذا الرأي بالإشارة إلى دراسة الدكتور حنا بطاطو المرجعية والمعمقة حول الطبقات الاجتماعية في العراق وسكانه، وكيف أن الجانب الطائفي لم يكن من الجوانب التي تناولتها الدراسة بالكثافة التي نتوقعها في حال العراق الحالي. أستحضر هذا المثال وأقارنه بالطرح الطائفي المتزايد في هذه الفترة، وأدرك أن علينا جميعاً مسؤولية دقيقة في التعامل الحساس مع هذا الملف لنتجاوز هذه المرحلة والتي تطل علينا فيها الأفعى الطائفية وبقوة بشعة.
والمطلوب من سياسيي العراق أن يتصرفوا في هذه الأزمة وأزمات أخرى لاشك أنها آتية، كرجال دولة، وأن يصونوا ويعززوا السلم الأهلي، وأن يتجنبوا الفخ الطائفي الذي يحاول أن ينصبه التطرف والمتطرفون لهم، وأن يحافظوا على هذه الثنائية الإسلامية الأزلية التي تشمل السواد الأعظم من سكان العراق. ولابد لنا من أن نقر بأن هذا الفخ ساهم ويساهم في تأجيج الخلاف ومن خلال عدة فصول سبقت الاعتداء الآثم الأخير. وعلينا من العراق إلى كافة أمصار العالم الإسلامي أن ندرك أن مع التطرف الأصولي، لابد وأن تأتي النزعة الطائفية والتي تقوم على الفرز لا على التوحيد والجمع، وتعتمد على اليقينية حتى في الفروع لا على الاختلاف والتنوع. وعلينا في هذه الفترة بالذات أن ننتبه إلى هذا الجانب وأن نعزز وحدة الإسلام والمسلمين بالتأكيد على القواسم المشتركة وتعظيم قيم التسامح والتعددية من خلال إشاعة ثقافة المواطنة والحوار والقبول بالآخر.