لا يشكل أسير الحرب صدّام حسين أي خطر مباشر الآن، لكنه يبقى ورطة وقعت فيها الولايات المتحدة الأميركية التي تمشي الآن متعثرة الخطى في العراق، لقد تجسّد آخر تهديد يشكله صدّام حسين بمحاولته حشد المقاومة ضد الاحتلال الأميركي؛ وبمجرد إفلاته من الأسر حتى الآن، ألقى بظله على النظام الجديد· وقد كان هدف صدّام بث الرعب في نفوس العراقيين لينفروا من التعاون مع سلطة الائتلاف المؤقتة ، وذلك بالإيحاء بأنه وزمرته المخيفة من البعثيين المتشددين سوف يعودون إلى الساحة لكي يتولوا أمر محاسبة المتعاونين· الصورة الآن مختلفة، فمن المؤكد أن تتولد عن ظروف نجاة الديكتاتور السابق حتى وقوعه في الأسر تأثيرات ونتائج ستتجلى في اندلاع المزيد من أعمال العنف ضد قوات الائتلاف ولا سيما الأميركيين والأجانب الذين يساعدون الاحتلال، غير أنها ستكون أعمال عنف تحركها التوترات المحلية وليس التخطيط المركزي·
لقد تكبد صدّام حسين خسائر جسيمة في حربه مع إيران في عقد الثمانينيات ثم في حرب الخليج ،1991 وقد بقي في سدة الحكم بفضل مساعدة واشنطن له في الحرب الأولى ثم صبرها عليه في الحرب الثانية· وقد توفر لصدّام الجهاز الأمني الهائل والأموال الكثيرة اللازمة لإعالته، وترافق ذلك مع احتكار وسائل الدعاية فكانت النتيجة بناء وتكريس صورة صدّام المعظّم ، فانتشرت صوره وتماثيله في كل مكان·
لكنه في يوم الأحد الماضي ظهر كرجل تعلو وجهه أمارات التعب وكخاسر في ثياب رثة وهيئة نكبتها الفوضى· وقد تحطمت صورة ذلك المعظم وتبعثرت شظاياها حين احتلت مكانها صور الأسير الذي يخضع للفحص الطبي فاتحاً فمه على مصراعيه، والأسير الذي يفتشون شعره المنكوب كأنهم يُفَلّونه من القمل!
وقد تضخمت عملية تنفيس وإفراغ بالون تلك الصورة المضخّمة من محتوياته بفعل قصة وقوعه في الأسر بطريقة مخزية شائنة· فبعد أن كان يحث بلده على القتال حتى الموت ضد الغزاة، وجده آسروه في جحر العنكبوت مطأطئاً رأسه ينظر إلى الأرض· وقد استسلم بكل بهدوء على رغم أنه كان مسلحاً بمسدس، بل وصف نفسه بأنه رئيس الجمهورية، فأضفى على هذا الجزء من التاريخ مسحة من عالم الهزل والسخرية· ومن الممكن أن صدّام يحدوه أمل في العودة إلى مكانته السابقة والخروج من هذه الهزيمة· ومن المفارقات المثيرة للسخرية أن كثيراً من الأمر بات مرهوناً مرة أخرى بما تفعله الولايات المتحدة به وبشعب العراق· تواجه واشنطن الآن تحديات أخفقت في مواجهتها من قبل بل وحتى في إدراكها في نهاية شهر مارس· ذلك أن القوات الأميركية، على رغم نجاحها في كسب الحرب، لم تتلقّ سوى القليل من التعليمات لتعزيز السلام في العراق· ولذلك صارت الولايات المتحدة هدفاً للشعور بالأسى والظلم الذي يعتمل في نفوس العراقيين التي تغلي اضطراباً وشعوراً بالمهانة والذل· وقد أدى ذلك بمجمله إلى توليد العنف الذي تعاظم وارتقى على مقياس الخطورة وكذلك على مقياس الوضوح السياسي، وصار موجهاً أيضاً إلى الأجانب ومن يتعاون من العراقيين مع الاحتلال· ومن المعلوم أن قوات الائتلاف صارت الآن أحسن تدريباً، وأن من غير المرجح وقوع موجة جديدة من الهجمات ضدها تستهدفها· لكن من شأن عدم تلبية متطلبات الأمن والقانون والدخل المادي وتوظيف العاطلين عن العمل، أن يكون سبباً ممكناً لتوليد خيبة الأمل التي ستؤدي بدورها إلى التطرف من جديد·
لقد عاد صدّام حسين إلى المشهد من جديد، وعلى رغم أنه واقع الآن في قبضة آسريه، ما زال وبوضوح يخلع على نفسه دور القائد والزعيم ورمز الأمة· ولو ساد اعتقاد بأن صدّام حسين تعرض للإذلال والإهانة، لكان من الممكن أن يوقظ في النفوس مشاعر التعاطف وأن يحيي أيضاً مشاعر القومية التي كانت دوماً رصيده وبضاعته ومعتمده الأساسي· ولا بد لواشنطن هنا من أن تقرر مصيره ومآله- ومن دون تأخير ليس هناك ما يبرره· ويقول الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش إن صدّام حسين سيقف أمام العدالة ويخضع للمحاكمة· ومن المؤكد أنه لا بد من محاكمة صدّام لمحاسبته على ما ارتكب من جرائم حرب ومن جرائم ضد الانسانية· لكن من غير الممكن أن تكون تلك المحكمة أميركية، ولا يمكن أيضاً أن تكون محكمة يشكلها الاتئلاف الذي يعمل بإمرة وقيادة أميركية، وإلاّ سيقول عنها القائلون إنها تعمد إلى إقامة عدالة المنتصر · ومن غير الممكن أن تكون تلك المحكمة عراقية، فالعراق لن يكون له دستور، ناهيك عن بقائه بلا نظام قضائي عدلي في السنوات القادمة· ولذلك يجب أن تكون المحكمة مؤلفة من هيئة دولية شرعية معترف بها·
إن المحكمة الجنائية الدولية التي تأسست حديثاً متوفرة لتولي قضية كهذه· وعلى رغم ذلك فإن الولايات المتحدة في عهد الإدارة الحالية، تستميت في مناهضة هذه المحكمة، وهي مناهضة مبنية على أسس خاطئة فحواها أن المحكمة سوف يتم استخدامها لذبح الأميركيين· وبحسب مقتضيات بنية القانون الدولي، تتمتع الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة وحدها بإمكانية بدء عملية تشكيل محكمة من هذا النوع من أجل العراق، تماماً على غرار