احتل خبر انفصال فرانسيس فوكوياما عن المحافظين الجدد، حيزاً مهماً في الصحافة العالمية. فصاحب نظرية "نهاية التاريخ" في كتابه الجديد يعلن هذا الانفصال علناً، ويرى أن خلافه الأساسي هو حول المسألة العراقية وتضخيم الخطر الذي مثله النظام "البعثي"، على حد تعبيره. وفي هذا السياق يتناول المؤلف بشيء من التفصيل، خطورة الضربات الوقائية والحروب الاستباقية في ظل إساءة تقدير حجم الخطر والتضخيم منه.
وفوكوياما الذي ارتبطت حياته المهنية والفكرية بمجموعة من رموز المحافظين الجدد، وعلى رأسهم "بول وولفوفيتز"، يبدو لمنتقديه من أوائل من يتركون سفينة على وشك الغرق، مع أن الطرح الذي يطرحه المؤلف في كتابه "أميركا عند مفترق الطرق" يعطي القارئ الانطباع، بأنه وفي قناعاته، لم يكن بالضرورة جزءاً من تيار المحافظين الجدد، ولكنه تقاطع معهم ومع أفكارهم وفي أكثر من موقع.
يناقش فوكوياما بشيء من الاستفاضة، التطور الفكري للمحافظين الجدد، وفي مقاربته المتميزة يرى أن هذه المجموعة، التي تمتد جذورها إلى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، قد تطورت فكرياً لتحمل راية "اليمين"، ومن جذور أميركية "يسارية" قادها مجموعة من المفكرين اليهود في نيويورك والذين عارضوا الستالينية. وفي مبحثه هذا يبين الكاتب جوانب الاختلاف الفكري بين هذه المجموعة و"المحافظين التقليديين" من أمثال هنري كيسنجر.
ومن هذه الجوانب توجهات النظم السياسية وطبيعتها في العلاقات الدولية، وبالتالي ربط "المحافظين الجدد" بين طبيعة النظم السياسية وطبيعة سياساتها بل وقدرتها على التغيير، إضافة إلى تشكيك هذه المجموعة بالقانون الدولي والمنظمات الدولية ودورها في العلاقات الدولية، وتطلعها لدور أميركي انفرادي في العلاقات الدولية.
أما الواقعية التقليدية لكيسنجر والسياسة الأميركية السائدة، فتبنت أطروحات "هانز مورغنثاو" وغيره من المفكرين. ومحور الطرح أن السياسة بين الدول في العلاقات الدولية تقوم على النفوذ والقوة ومحاولات السيطرة أياً كانت طبيعة النظام السياسي السائد، وقلل هذا الطرف من أهمية الرسالة الأيديولوجية المبشرة في العلاقات بين الدول.
والطرح بطبيعة الحال معقد وثري ومفصل ويعرج على سنوات الحرب الباردة بين تيار يرى أنه يستطيع أن يتعايش مع الاتحاد السوفييتي في ظل توازن نووي دقيق، وآخر يرى أن مثل هذا التعايش غير ممكن بسبب طبيعة النظام. ولعلنا من خلال هذه المقاربة ندرك أبعاد توجه تغيير النظم وتفكيكها الذي تبناه المحافظون الجدد والذي جاء غالباً في حقبتي الرئيس الراحل رونالد ريغان، الذي يعتبره فوكوياما من المحافظين الجدد، والرئيس بوش الابن، الذي التحق بهم بعد أحداث سبتمبر وبصورة تدريجية.
في انفصاله عن "المحافظين الجدد"، يطرح فوكوياما مجموعة من الاستنتاجات، وعلى رأسها تصوره بأن إدارة الرئيس بوش، وفي الاستعداد للهجوم على العراق، بالغت في تصوير الخطر من خلال الربط بين ثنائية التيارات الجهادية الإرهابية وأسلحة الدمار الشامل، ومثل هذا الربط هو الذي أنتج فكرة الضربة الاستباقية والحرب الوقائية، بدلاً من سياسات تقليدية كانت قائمة على الاحتواء والردع. وفي هذا التصور انحاز فوكوياما ضد الكاتب الأميركي تشارلز كروثهامر الذي بالغ في تصوير أبعاد الخطر الجهادي، ولصالح رأي الفرنسيين جيل كيبل وأوليفر روي، والقائل إن هذا التطرف الجهادي ليس إنتاجا إسلاميا صرفا، بل هو نتيجة لعزلة العديد من المسلمين في مجتمعاتهم الغربية وعدم دمجهم في هذه المجتمعات. رأي لاشك أنه جدير بالتمعن ولاشك أنه، وككل رأي، سيكون له محازبوه ومن لا يتفق معه.
وبطبيعة الحال يتناول فوكوياما في كتابه المهم المسألة العراقية، ويلوم تيار المحافظين الجدد أنه، وضمن تركيبته الفكرية، غير مهيأ لبناء الدولة ومؤسساتها، وهو السيناريو الذي اتضح أن العراق في أمسِّ الحاجة إليه. وفي هذا الجانب يتناول البناء الأيديولوجي للمحافظين الجدد وتشكيكهم في المؤسسات والتعاون الدولي، ويبين أن التصور الناقص في هذا المنحى والفكر العسكري المرادف والقائم على ديناميكية عملياتية لا التفوق العددي، اتحدا في الحالة العراقية، وبصورة سلبية، ليكشفا عجز الدور الأميركي في فترة ما بعد إسقاط نظام صدام حسين.
ولاشك أن مثل هذه الأطروحات بدأت تتردد في الفترة الأخيرة ولكنها في هذه الحال تأتي من مفكر مؤثر محسوب على المحافظين الجدد.
ومثل هذا الانتقاد، ومن أهل البيت، إن صح التعبير، يأتي في وقت يرى العديد من المتابعين، أن لحظة المحافظين الجدد الحالية في إدارة وتوجيه السياسة الخارجية الأميركية قد آن أوان إسدال ستارها. وفوكوياما يتفق مع القائلين بعودة التيار الواقعي الذي سير السياسة الخارجية الأميركية لعقود عديدة، مع أنه لا يستبعد أن مرارة التجربة العراقية ستولد توجهاً انعزالياً في السياسة الخارجية الأميركية.