لقد كان مطلع عام 1959 هو اليوم الذي تقلدت فيه القوات الثورية التابعة للرئيس فيدل كاسترو السلطة في كوبا بعد أن شقت طريقها منتصرة إليها. حدث ذلك منذ نحو خمسة وأربعين عاما، وكان وقتها كاسترو ابن واحد وثلاثين ربيعا لا أكثر. واليوم فهو أطول طغاة العالم عمرا في التشبث بمقاليد الحكم. خلال هذه المدة تعاقب على حكم الولايات المتحدة الأميركية عشرة رؤساء هم إيزنهاور، كينيدي، جونسون، نيكسون، فورد، كارتر، ريجان، بوش الأب، كلينتون، ثم بوش الابن. من بين هؤلاء جميعا، انفرد الرئيس الأسبق كارتر وأجهزة وكالة المخابرات المركزية الأميركية، بفعل كل ما هو ممكن، في سبيل إسقاط حكومة كاسترو. غير أن محاولاتهم جميعها ذهبت أدراج الرياح. والنتيجة هي أن الرؤساء الأميركيين قد واصلوا تعاقبهم على البيت الأبيض الواحد تلو الآخر، بينما بقي كاسترو مرابطا في كرسيه، على رغم تجاوزه العمر التقاعدي بوقت طويل.
يذكر أن الرئيس كارتر بذل مسعى آخر، انتهى مثل سابقه إلى الفشل أيضا. ففي ظل انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين هافانا وواشنطن، أبرم كارتر اتفاقية مع الكوبيين تقضي بأن تحتفظ كل من الدولتين بقطاع مصالح يخصه والفكرة هي أن تقوم هذه القطاعات مقام الدور الذي عادة ما تؤديه السفارات في حال وجودها. وكان إنشاء القطاعات المذكورة إياها، بمثابة تمهيد لإقامة سفارات وعلاقات دبلوماسية كاملة بين البلدين، وفق ما هو مفترض في الاتفاقية آنفة الذكر. غير أنه لم يقدر لخطة كارتر تلك أن تكتمل وتمضي في طريقها كما هو مقرر لها. فقد بادرت هافانا حينها إلى إرسال قوات كوبية إلى أنجولا، بفضل الدعم المالي الذي قدمه لها الاتحاد السوفييتي، بغية مساندة الجناح المؤيد للسوفييت في تلك الحرب الأهلية. نتيجة لذلك فقد بقيت قطاعات المصالح المشار إليها كما هي، غير أن الخطوة التنفيذية التي تترجمها إلى واقع لم تتخذ قط.
يذكر أن كاسترو كان عازما على تغيير الواقع الكوبي لحظة صعوده إلى مقاليد الحكم. كما كانت تتنازعه مشاعر مزدوجة ومتضاربة تجاه الولايات المتحدة الأميركية. وكان التحول المنشود في كوبا يقوم على برامج خصصت للإصلاحات والرعاية الاجتماعيتين. وكانت تلك البرامج قد كللت بنجاح فائق، أعطى كاسترو شعبية كبيرة وسط الكوبيين، لا تزال حتى اليوم. وكان محور تلك البرامج هو الصحة العامة، والتعليم، والإسكان. وقد تم تطبيقها جميعا، على رغم الحصار الأميركي لكوبا. وحقق كاسترو نجاحا باهرا في تحسين مستويات الرعاية الصحية العامة. كما ارتفعت مستويات التعليم وانخفض معدل الأمية بدرجة كبيرة في أوساط المجتمع الكوبي. ومن جانبها فقد اختفت مدن الفقر والصفيح، بعد أن علت الشقق والتجمعات السكنية الفاخرة الحديثة محل تلك المدن الصفيحية البائسة. ضمن ذلك أيضا، فقد وضعت الدولة اليد على ممتلكات عقارية شاسعة، طالتها خطى الإصلاح، وتم تحويلها إلى ملكية جماعية في إطار حملة إصلاح الأراضي.
وحين يفكر الأميركيون باستقلال كوبا، فإنهم يعتقدون أنهم محررون للشعب الكوبي خلال الحرب التي قادتها أميركا ضد إسبانيا في عام 1898· أما الكوبيون فينظرون إلى تلك الحرب على أنها وسيلة أميركية لسرقة كفاحهم الوطني الذي خاضوه بأنفسهم تحت قيادة بطل تحريرهم الحقيقي خوسيه مارتي. وفي اعتقاد الكوبيين أنهم كانوا سيتمكنون من انتزاع استقلال بلادهم، دون تدخل من قبل واشنطن. ولذلك فإن تحديهم للولايات المتحدة هو بمثابة تعبير عن تمسكهم باستقلاليتهم عنها.
في بدايات عهدها، كانت الثورة الكوبية بقيادة كاسترو، قد اتخذت منحى أخلاقيا تطهريا عاما، هدفه استئصال مظاهر الفساد المرتبط بالأميركيين والسياح الأميركيين القادمين إلى البلاد. فقد لجأت الثورة إلى إغلاق جميع الكازينوهات أو أندية القمار. وكانت هذه الأخيرة بمثابة مغناطيس جاذب للسياح الأميركيين، إلا أنها كانت جاذبة أيضا لعصابات المافيا وأنشطتها المخربة إلى الجزيرة. أما ما بقي من ملاهٍ وأندية ليلية، فقد فرضت عليه قيود أخلاقية صارمة ترتبط بلباس ومظهر الراقصات والفتيات العارضات. ضمن ذلك، شنت الحكومة حملة لا هوادة فيها ضد البغاء، وضد كل ما ترى فيه مؤثرات فساد أميركي مغروس في الجزيرة وبين أهلها.
على الجانب الآخر، فإن الكوبيين ولعون جدا بلعبة البيسبول، ويودون لو يعود الأميركيون إلى الجزيرة ويشاطرونهم هذا الغرام الشعبي العام، وتستمر علاقات أميركية- كوبية جديدة أساسها هذا الحب. ومنذ اللحظات الأولى للثورة، كان قد احتدم عراك حول ما زعم أنه علاقات سوفييتية تربط بين كاسترو وموسكو. ومع أن كاسترو نفى صحة هذه المزاعم، إلا أنه واصل حملته ضد المصالح الأميركية في الجزيرة. وقد شملت تلك الحملة، الملكيات والاستثمارات الأميركية وغيرها من مصالح. ونتيجة لتصاعد ردود الفعل الداخلية في واشنطن، فقد وافق الرئيس الأميركي إيزنهاور على خطة لتدريب وكالة المخابرات المركزية الأميركية للمهاجرين الكوبيين المستعدين لغزو خليج الخنازير. كان ذلك في فبراير من عام 1960