في الذكرى الخامسة لهجمات 11 سبتمبر التي غيرت مجرى التاريخ، يظل السؤال الملح يلاحق كل مسؤول حول العالم "لماذا لم نقض على القاعدة وهل فشلنا في الحرب على الإرهاب؟" ولكن السؤال سيتغير، لو أدركنا حقيقة "القاعدة"، وهي أنها لم تكن يوماً بالحركة القوية الجماهيرية القادرة على قلب الحكومات أو حتى احتلال مدينة والاحتفاظ بها ليوم أو يومين. إنها ليست حركة مد شعبي إسلامي، وكانت ولا تزال تنظيما سريا يكاد يكون طائفة في ذاته، إذ يتبع فقه يخصه، يفترق في بعض أهم مسائله عن أهل السنة والجماعة، له شيوخه الذين لهم مرتبة في قلوب اتباعه تكاد تبلغ حد القداسة، فلا يردون لهم كلمة ولا يناقشون لهم رأياً. لقد كانت "القاعدة" كذلك يوم 11سبتمبر، وقبله وبعده، رغم كل الزخم الإعلامي الذي يحيط بها، بل إن المتابع المدقق لأدبيات "القاعدة" يجدهم كثيري العتب ليس فقط على عامة المسلمين الذين رفضوا الانخراط في صفها، فاستباحوا دماءهم في الرياض والدار البيضاء وعمّان وشرم الشيخ وغيرها، بل إنهم يعتبون أكثر حتى على علماء التطرف وطلبة العلم الذين وافقوهم في بعض مسائل الخروج على أولياء الأمر أو تكفير المجتمع بعضه أو كله، ولكنهم لم ينفروا مثلهم إلى ما يعتقدونه جهادا شرعيا، تميزت أثره الصفوف، فرضي أولئك "الأخوة" أن يكونوا مع الخوالف. لم يتجاوز عددهم في المملكة مثلاً بضع مئات، معظمهم اليوم خلف القضبان. وفي زمن "القاعدة" الذهبي في أفغانستان قبيل الحرب التي قضت على "طالبان"، لم يزد عددهم عن بضعة آلاف، وحفنة هنا وهناك في أوروبا وبريطانيا، وبعض الدول العربية. ولعل أكبر وجود لهم اليوم في العراق، ولكن وسط خليط من الناقمين على الاحتلال وتغير الأحوال، فليس كل من قاوم في العراق "قاعدي" يقول بما تقول به من تكفير ورؤية شاذة لدولة إسلامية، لا يرضى بها سلف ولا خلف، ولا تملك مقومات البقاء والاستمرار، هذا إذا ما قامت. إنها مجرد وعاء يستوعب الغلاة من الغاضبين العرب والمسلمين، وما أكثر هؤلاء في هذا الزمان، بل أحسب أننا كلنا غاضبون، بل أتطرف وأقول: إن من لم يشتعل قلبه بالغضب خلال الخمسة أعوام الماضية على الأقل، فعليه أن يراجع إيمانه، فلعل شيطانا قد مسح على قلبه، فجعله بليداً لا يحس. وبينما يعبر جلنا عن غضبه بالشكل الصحيح، كمساعدة المتضررين، أو الاحتجاج على الظالمين، فإن بعضنا الآخر يفقد الحكمة فيعبر بالتصفيق لـ"القاعدة" وأفعالها، خاصة إن كانت بعيدة عن أهله وداره، ولكن لا يجرؤ على الانتقال إلى صفها أو بالأحرى لا ينزل إلى عالمها السفلي المظلم خشية سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، فهو غير مؤمن أنهم على هدى ونور مبين، وإلا لرأينا أولئك المبررين لـ"القاعدة" وأعمالها ينخرطون في صفها، ويدفعون بفلذات أكبادهم يحترقون في أتونها ولكنهم لا يفعلون. بل إن مع غلو "القاعدة"، وجرأتها على دماء المسلمين، انصرف كثير من الغاضبين عن أدنى تعاطف معها، واقتنعوا بشرها عليهم قبل غيرهم، فأصبحوا شريكاً كاملاً في الحرب عليها. وبدا ذلك أوضح ما يكون في المملكة التي يقول المسؤولون فيها: إن دور المواطن كان الأساسي في انكفاء "القاعدة" وخسارة رهانها في بلاد الحرمين. إذن فلماذا هذا القلق والخوف والتحرزات الأمنية في شوارعنا ومقار الحكومة وفي الأماكن العامة بل حول العالم بأسره في المطارات والقطارات، إذا كانت "القاعدة" وجندها مجرد أفراد قلائل؟ لسبب بسيط واحد وهو أن لدى "القاعدة" سلاحا مضاء، لم يسبقها اليه أحد، فعالا وفتاكا، ألا وهو "العمليات الانتحارية" التي يسمونها زوراً، هُم وأنصارهم المبررون لهم "الاستشهادية". وإذا ما أردنا القضاء على خطر "القاعدة" والى الأبد، فلابد من تفكيك هذا السلاح و"نزعه" من بين أيديهم أو بالأحرى من فوق أجسادهم، إنقاذاً لهم من موبقة عظيمة يقعون فيها، وإنقاذا لنا ولأمننا واستقرارنا، وهو سلاح لا "ينزع" بقرار من مجلس الأمن، بل بفتوى صارمة، جامعة مانعة من علماء المسلمين لا تُبعض ولا تستثني فالعمليات الانتحارية كما قال كثير من العلماء، خاصة من اتباع المنهج السلفي، حرام لا تجوز حتى لو كانت المستهدف عدوا اُتفق على عدائه، وفي حرب مشروعة فشبهة الانتحار فيها غالبة، والانتحار من الكبائر التي لا يبيحها اجتهاد. ومن دون العمليات الانتحارية تصبح "القاعدة" مجرد حركة احتجاج وغضب يمكن حينها التعامل معها، واحتواء أذاها. ولنعد إلى كل عمليات "القاعدة" التي وضعتها على خريطة الإرهاب، لنجد أنه من دون هذه العمليات، ما كان لها أن تكون، بدءاً من عمليتها الأكبر التي استحضر العالم ذكراها الخامسة أمس، وقبلها بيومين عملية اغتيال البطل الأفغاني غدراً أحمد شاه مسعود، وبأشهر وسنوات عمليات تفجير السفارة المصرية في إسلام أباد وسفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام وبعدهما تفجير الناقلة كول، ومروراً بعمليات "القاعدة" في المملكة بعد 11 سبتمبر، وفي لندن، وعمّان، وشرم الشيخ، والدار البيضاء، وفي كل يوم في العراق الآن، وانتهاء بمخطط تفجير الطائرات فوق الأطلسي الذي كشف الإنجليز عنه قبل أسابيع، وختامها عملية اغتيال حاكم ولاية كويتا الأفغانية قبل يومين، وهو فعل لم يمارسه المجاهدون الأفغان ومن معهم من الأنصار العرب طيلة سنوات جهادهم المبرور ضد الروس، رغم بطش الغزاة وظلمهم وخروجهم على أخلاقيات الحرب المتوافق عليها، ذلك أن الأفغان في تلك الحقبة غير البعيدة لم تصبهم بعد لوثة التكفير والغلو التي استحوذ شيطانها على "القاعدة" وظل فيهم خلق الإسلام في الحرب رغم تفشي الجهل بينهم . ولا يستثني من هذه السيرة المشينة إلا عملية مدريد التي نفذت بعبوات ناسفة وضعت بين مدنيين أمنيين، ولكن موبقة قتل النفس لا تغادر مرتكبيها، إذ قضوا تفجيراً لأنفسهم جماعياً عندما داهمت مقرهم الشرطة الإسبانية، في فعل غير مسبوق من قبل المسلمين، ولديهم في ذلك فتوى هي الأخرى غير مسبوقة انفردت بها "القاعدة" تبيح لأعضائها قتل أنفسهم إذا ما خشوا الوقوع في يد العدو. ألم أقل إنهم طائفة، يختلفون عنا فيما نعتنق وندين ونخشى به الله! ولو بحث باحث في سيرة أولئك الهلكي المنتحرين، لوجد أن جلهم إما أحداث، أو حديثو عهد بتدين، لو ملكوا بعضا من فقه لما وقعوا في خطيئة مهلكة كالانتحار تحبط عمل عبد يريد بعمله وجه الله وجنته، ولو عاد أحدنا إلى سيرة ما كان يسمى بالعمل الفدائي في الستينيات والذي رسم تلك المرحلة من "النضال العربي"، والذي اختلط بأعمال تكاد أن تكون انتحارية، لوجد أن أصحابها كانوا من أهل "اليسار" يحاربون من أجل قضيتهم، فلا تهمهم جنة أو نار ولقاء الديان، فهانت عليهم نفوسهم ورموا بأنفسهم في التهلكة من أجل الزعيم. وغريب أن يفعل فعلهم من يهمه مصيره وخاتمته، ولكنه فقه أعوج ضلوا به. إن الحل لمشكلة "القاعدة" هو أن ينفر فريق من علماء المسلمين من غير الموترين المسيسين، الذين يرمون الحقيقة وحكم الشرع، وليس الهوى، فيفككوا هذا الفقه، ويحللوه، ويكتبوا تاريخ فكر "القاعدة" أو بالأحرى فكر التكفير، كيف ابتدأ ولماذا استمر خفية تارة، وعلانية تارة أخرى في البنية الفكرية الإسلامية منذ زمن الخوارج إلى زمن "القاعدة"، لينتهوا إلى الأسس التي استخلص منها خوارج اليوم فتوى إباحة العمليات الانتحارية، وما حولها من فتاوى تمهد لها وتسندها، وحينها فقط يتم انتصار الإسلام والمسلمين على الإرهاب، وهو في نظري أهم وادعى من انتصار الغرب على الإرهاب، فالإسلام هو الضحية الأولى لـ"القاعدة".