لم يكن عراق صدام حسين صديقاً للمملكة العربية السعودية، بل مصدر تهديد وقلاقل، ولكن لم تفكر المملكة وقتها في بناء سياج بينها وبين العراق الشقيق، فلعلها كانت تؤمن بأن أنظمة كهذه عابرة، وسيعود العراق منسجماً مع محيطه، كما أن صدام وبالرغم من كل شروره، كان قادراً على ضبط الأمر في بلاده. أما اليوم، فلقد أعلنت المملكة عزمها على بناء سياج أمني على طول حدودها مع العراق، اتقاء للشر المحتمل قدومه من هناك. التفسير الوحيد الممكن، هو أن الرياض لم تعد تثق في الوعود والتحليلات الأميركية بأن العراق سيستقر ويتحول إلى واحة سلام واستقرار، ويكون نموذجاً يقتدى في المنطقة. كما أن في القرار السعودي خبراً سيئاً لأهل العراق، مؤداه أن جيرانهم يتوقعون الأسوأ وباتوا يتحسبون لذلك، وبالتالي عليهم فعل شيء جاد للخروج من دوامة التصفيات وعمليات الانتقام المذهبية المؤدية، لا محالة، إذا ما استمرت بوتيرتها الحالية إلى كارثة حرب أهلية ماحقة. أما في الولايات المتحدة، فلقد أصبح العراق هو الموضوع الأول المؤثر في الانتخابات التكميلية في الشهر المقبل، والمتوقع أن تكون كارثة على حزب الرئيس "الجمهوري"، بل حتى على كل "ديمقراطي" أيد الرئيس بوش في اتخاذ قرار الحرب. ولم تعد الحرب ولا مجرياتها التي تلاحق الأميركي على شاشات التلفزيون كل يوم، هي المشكلة، بل أإن العجز العام عن تقديم حل للخروج من الحرب، أصبح تحدياً يُحرج كل سياسي أميركي، وبالتالي ستلاحق لعنة العراق حتى "الديمقراطيين" الذين سيكتسحون الانتخابات المقبلة. وبينما لا يتوقع أحد أن تخرج أميركا من العراق خلال العامين المتبقيين من رئاسة بوش، ولا أن تنتصر أيضاً، فإن مشكلة العراق ستُرحَّل إلى الانتخابات الرئاسية القادمة، لتصبح القضية الأولى وعلى كل مرشح حينها أن يقدم "حلاً" ما يقنع به ناخبيه. لقد نجح الرئيس بوش في جعل "الاستمرار في نفس الاتجاه" أي البقاء في العراق، مسألة وطنية، فالانسحاب من هناك "انتصار للإرهابيين" وتحديداً عدو أميركا الأول "القاعدة" والتي لم تكن موجودة في العراق يوم غزاها. وبالتالي على الجميع تقديم أي اقتراح لحل الأزمة سوى "الانسحاب"، وهنا تكمن المشكلة. وأبرز الحلول المقترحة من خارج الإدارة هو أسوأها، والمقدم من السيناتور "جوزيف بايدن" القائل بتقسيم العراق، وإن خفف السيناتور "الديمقراطي" من وطأة اقتراحه الكارثي بجملة من نوع "ثلاثة أقاليم مستقلة في عراق فيدرالي واحد مع بغداد عاصمة مشتركة". وفي البداية لقي هذا الاقتراح انتقاداً من الإدارة، ولكنه لم يمتْ، ولا يزال "بايدن" يروِّج له، وانضم إليه مرشح "ديمقراطي" آخر، وهناك مجموعة سياسية أميركية مؤيدة لهذا الاقتراح وتنشر إعلانات تروِّج له في المجلات السياسية النافذة في الولايات المتحدة. ويزيد من سوء الاقتراح أن أكثر من يناقشه ويروِّج له، هم باحثون إسرائيليون أو أميركيون متعاطفون مع إسرائيل، ما يضفي عليه صبغة مشبوهة. أما في داخل العراق فإن الذين سيؤيدونه ضمناً ولمحوا إلى رغبتهم في تقسيم العراق دون أن يشيروا إليه، هم المتطرفون الشيعة الساعون إلى فيدرالية الجنوب التي ستضمن لهم استمرار السيطرة عليه، وربطه لاحقاً بدولتهم الشيعية الكبرى، التي يسعون إليها. أما المتطرفون السُّنة، الملتفون حول "القاعدة" فلم يخفوا حلمهم بإقامة "إمارة الرمادي الإسلامية"، وهي المنطقة التي خصصها السيناتور "بايدن" لسُنة العراق في حله الكارثي. من الواضح أن الركن الأول في مشروع "بايدن" هو بقاء النفوذ الأميركي في العراق، وإن لم يكن فيه كله، فليكن حيث البترول، والأخير موجود في شماله وجنوبه، وبينما لا يجد الأميركيون مشكلة في الشمال حيث إقليم كردستان الذي يتمتع باستقلال ذاتي، وترحب حكومته بوجود دائم للقوات الأميركية، ولا يجدون فيه مقاومة تذكر، فإن الجنوب حيث الغالبية الشيعية، وجدوا فيه هم والبريطانيون ترحيباً باستثناء مجموعة مقتدى الصدر، والرجل سياسي محنك ولن يمانع في عقد صفقة معهم. أما الوسط حيث لا يوجد نفط يذكر، وإنما مقاومة وعمليات انتحارية وتحت رحمة "القاعدة"، فيلقي به "بايدن" بعيداً، غير مهتم بما يعنيه تقسيم العراق من تطهير عرقي، وتفريق أسر وأزواج، إن لم يكن مذابح تستبدل الأخوة السابقة بكراهية لا تنقطع، ونار لا تنطفئ. المهم عنده ألا تعترف أميركا بهزيمتها في العراق. إن وصفة كهذه كارثية ليس للعراق وجيرانه فقط، بل حتى للولايات المتحدة نفسها، هذا إذا كانت تهمها حقاً صورتها في العالم العربي، السيئة أصلاً بسبب تأييدها المُطلق لإسرائيل، فتضيف للعرب والمسلمين سبباً آخر للسؤال الأميركي الكبير: "لماذا تكرهوننا؟"، والجواب هو أنكم السبب في تقسيم بلد عربي، وزرع الكراهية بين أبنائه. وحتى العراقيون الذين سيرحِّبون بالتقسيم، ويقعون في فتنته، لن يعترفوا بأنهم سعوا إليه وتمنوه، بل سيُلقون اللوم على الولايات المتحدة. إن الحل الأمثل، هو أن تعيد الولايات المتحدة تحليل سبب فشلها في العراق وأفغانستان أيضاً، وتقتــــنع بأن "الوجود الأجنبي" على أرض إسلامية هو المشكلة وليس الحل. فالمسلمون بما يحملون من إرث تاريخي مثقل تجاه أوروبا المسيحية بسبب صراعات قديمة بين الديانتين، وتمددهما على حساب بعضهما بعضاً، إضافة إلى الحروب الصليبية، والاستعمار الأوروبي ببعديه العسكري والثقافي مختتماً علاقة متوترة بمزيد من التوجس والريبة، كل هذا جعل العقل المسلم يرفض بشدة الوجود الأجنبي المسلح فوق أرضه. حصل هذا في العراق عندما دخله البريطانيون بعد الحرب الأولى، وفي أفغانستان عدة مرات في القرن التاسع عشر في الحروب الأفغانية- البريطانية. ابتعِدوا عن البلدين عسكرياً، مع إبقاء الدعم السياسي واللوجستي لحكومتيهما المنتخبتين، حينها يستطيع العراقي الوطني أن يقصي المتطرف الشيعي والسُّني معاً، والأخير لن تكون لديه حجة الاحتلال للاستمرار في مقاومته، فانتهى بقتل أخيه الذي اصطف مجتهداً بجوار المحتل. بالتأكيد سيستمر أنصار "القاعدة" في حربهم، فغرضهم الحقيقي ليس المحتل وإنما إقامة تلك "الإمارة الإسلامية" الخالصة، وحينها سينفضُّ عنهم الجمع، وينتهون مثلما انتهى غيرهم في السعودية ومصر والجزائر. أما في أفغانستان، فلو أوقف "الناتو" والقوات الأميركية غاراتهما العبثية في جنوب وشرق أفغانستان، بل حتى لو رحلا من هناك إلى قواعدهما في المنطقة، فسيجد أولئك "البشتون" الغاضبون من تهميشهم، ومن الوجود الأجنبي على أرضهم، أنفسهم أمام اختيار التفاوض مع إخوانهم في كابول، وهم رفقة جهاد سابق، لتقاسم بعض من السلطة معهم، أو الاستمرار في قتال مسلم لأخيه المسلم فتقوم عليهم الحجة، ويحرجوا أمام شعبهم الذي يريد أمناً وسلاماً. ومخطئ من يعتقد أن "طالبان" عائدون، فهؤلاء ظاهرة عابرة في تاريخ أفغانستان، ما كان لهم أن يعتلوا سلطة، أو يؤسسوا إمارة لولا حماقة المجاهدين واقتتالهم بعد انتصارهم على السوفييت وعملائهم الشيوعيين. بالطبع سيستمر الأميركيون في تتبع غريمهم الأول "بن لادن" وجماعته، وهؤلاء سيسهل تعقبهم بعد أن يستقر الوضع بين الإخوة في أفغانستان، ويخف الاحتقان الناتج عن رعونة الطائرات الأميركية التي كانت تقصف الأفراح، وتغِير على كل رجل طويل يعامل باحترام في جنوب أفغانستان. سينصرف الأفغان إلى همهم الأصلي ويتركوا الأميركيين مع غرمائهم، بل ربما يقدمون بعض العون رغبة في إقفال هذا الملف. ارحلوا عن العراق وأفغانستان، فقواتكم الراجلة في شوارع بغداد، وعرباتكم المجنزرة في أودية بكتيا وقندهار هي المشكلة وليست الحل.