بقدر ما رحب السعوديون بقرار تشكيل "هيئة البيعة" لتنظيم الخلافة في الحُكم في المملكة مستقبلاً، بقدر ما انزعجوا من الطريقة التي أعلنت بها، الوقت كان فجراً، يستعدون لإنهاء سحورهم والتوجه لأداء فريضة الفجر. فجأة يسمعون المذيع الشهير سليمان العيسى الذي ارتبط صوته بالأخبار المهمة، وهو يتلو ما بدا لهم أنه بيان مهم واستثنائي، فسمعوا منه حديثاً عن "هيئة للبيعة عند وفاة الملك"، وعبارة أخرى عن "الحالة الطبية للملك وولي العهد"، وعبارة ثالثة عن تعيين رئيس الديوان الملكي خالد التويجري أميناً عاماً لها. جلس من قام يتوضأ، وأصلح وضعه متنبهاً من لا يزال على السفرة معتقداً أنه ما زال يحتاج لقيمات أخرى، أما الذين لم يفاجئهم التلفزيون السعودي، ففاجأتهم قناة "العربية" بشريطها الإخباري، وتسبقه كلمة "عاجل"، وبعدها عبارة تعيين هيئة للبيعة في السعودية. وضع الجميع أيديهم على قلوبهم، واسترخوا قليلاً وأخذوا يستمعون بانتباه، تنفس الجميع الصعداء، وحل الاطمئنان والحمد محل القلق والتوجس، بعدما فسرت الجُمل، واتضحت المعاني، كل ما هناك أنه أمر ملكي مهم، يصب في نفس مجرى الإصلاح الشامل الذي اختطه الملك المصلح عبدالله بن عبدالعزيز، لعلاج واحدة من أهم القضايا التي كان كل سعودي يعرفها ويتحدث فيها على استحياء، وهي مسألة خلافة المُلك في بلدهم الذي يريدون أن يمضي مستقراً. قال أحدهم مازحاً: "الحمد لله أن الخبر لم يذع أثناء ساعات التداول في سوق الأسهم، وإلا لرأينا السوق يترنح في لحظات ريثما يفهم الجميع ما حصل"، نعم إنه سوق المال وقوته، الذي بات يرمز إلى اقتصاد المملكة الطموح، وذلك الاقتصاد الذي لم يعد اقتصاد الدولة وإنما اقتصاد الناس كلهم، في مشاركة حقيقية، وهو رخاؤهم ووظائفهم وتطلعهم إلى مستقبل أفضل وأسعد، هو الذي كان في ذهن خادم الحرمين، وهو منكب يصوغ الأمر الملكي المحكم ويناقشه مع إخوانه الكرام، ومع الخبراء القانونيين المعنيين، لضمان الاستمرار السلس للحكم والذي تميزت به المملكة منذ وفاة الملك المؤسس عبدالعزيز إلى العهد الحالي، فلا يتأثر الوطن بعد غياب جيل التأسيس بسبب أقدار الله المحتمة، ولا يرتبك الانتقال إلى قاعدة أوسع من المؤهلين لقيادة البلاد. ولو رسم أحدنا رسماً بيانياً رمز فيه للإصلاحات التي شهدتها المملكة، كبيرة وصغيرة، خلال السنوات الأخيرة، من إحياء لمجلس الشورى، إلى توسيع لصلاحياته، إلى التأسيس لنظام للحكم المحلي، وإقرار مبدأ مشاركة الشعب في صنع القرار، وإجراء أول انتخابات محلية، والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وإقرار مبدأ الانفتاح على الاستثمارات الأجنبية بوضع الأنظمة المشجعة لها، وإقرار مبدأ الحوار الوطني محل هيمنة الرأي الواحد، وما تبع ذلك من انفتاح إعلامي واجتماعي، والتطوير الجذري المتوقع قريباً للنظام القضائي والتعليمي، يجد أن الرسم البياني متصاعد في اتجاه الصورة النموذجية للحكم الراشد، المتمثلة في المشاركة الشعبية والتي يمكن أن تسمى الديمقراطية، والشفافية، والمحاسبة، أو مبدأ التدقيق والمحاسبة Check and Balance القائم على فصل السلطات لضمان السير الصحيح للحكم، بما يفيد مصلحة الوطن والمواطن بالدرجة الأولى، وآخرها قرار "هيئة البيعة". وبالتالي نحتاج إلى تعميق ثقافة حق المواطن في السعادة والحياة الأفضل، والرخاء والتنعم بنعيم الدنيا، وفق مقتضى الآية الكريمة "وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا" دون أن تغيب عنه حقوقه الأخرى الثابتة في الشريعة، كالأمن في دينه وعرضه ودمه وماله. ثقافة تروج لحب الحياة والجمال، تجعل من المواطن متطلعاً إلى الحياة، ومسؤولاً عن ضمان سيرها في رقي ممثل في مدينة أفضل، وحي أفضل، وبيت أفضل، فيشارك في صنع كل هذا من خلال نظام انتخابي تمثيلي يتطور باستمرار، وإعطائه الحق في المشاركة في صنع السياسة التعليمية التي تهيئ ابنه وابنته لوظيفة أفضل لكي يكونا مواطنين منتجين في مجتمع منتج سعيد، ولتحسين البيئة التي يعيش فيها، ولضمان رعاية صحية جيدة متى احتاجها. كثير من المسؤولين يطالبون المواطنين بتحمل مسؤولياتهم في أحيائهم ودوائر أعمالهم، ولكن المواطن لن يستطيع أكثر من القيام بوظيفته المحددة إذا لم تكن هناك الآليات التي تخرطه في أطر المشاركة الشعبية، والثقافة التي تدفعه إلى تحمل المسؤولية، ومن قبلها ثقافة تمجد الحياة، وإعمار الأرض، لتحل محل ثقافة الموت والزهد البارد التي تسللت علينا، حتى فقد البعض الحافز للإصلاح والتفاعل مع مشاريعه التي تتوالى خلال السنوات الأخيرة بقيادة ومبادرة من خادم الحرمين حفظه الله. أهم محرك لهذه الثقافة هي الصحافة والتلفاز، وهؤلاء يحتاجون إلى نظام يشرع لهم الحق في الحصول على المعلومات وتدقيقها من الميزانية العامة إلى تكلفة وتفاصيل مناقصة تشجير شارع صغير في قرية نائية، ومن ثم يتحول اقتصادنا الذي بات محركاً أساسياً لنشاط المواطن وقراراته إلى لغة أرقام علمية، وتحليلات قائمة على معلومات صحيحة، تصبح هي لغة الحوار وموضع الاهتمام، فيهتم المواطن مثلاً بنسبة البطالة في البلاد؟ ولماذا ارتفعت خلال الشهور الستة الأخيرة أو لماذا انخفضت؟ هل ذلك بسبب التعليم أم بسبب سياسة وزارة العمل؟ هل هو القطاع الخاص الرافض للتخلص من العمالة الأجنبية أم أن التخلص من العمالة الأجنبية سيؤدي إلى إغلاق مصانع أو رحيلها وبالتالي فقدان عدد من السعوديين لوظائفهم فيها؟ لماذا لا يعني افتتاح مصنع إطارات سيارات في جيزان، توفير وظيفة لـ250 شاباً جيزانياً؟ بينما افتتاح مصنع مثله في مصر أو الأردن يعني توفير وظائف لأبناء البلد بل حتى القرية التي يفتتح فيها المصنع. أليس ما سبق أكثر أهمية وأجدى للنقاش في صحفنا وإعلامنا من الجدل حول رؤية هلال رمضان بين الفلكيين والفقهاء، أو خرافات حصة العون وسعد البريك حول الصحفيين الأشرار الذين تدفع لهم السفارات الأجنبية. من الواضح أن روح الإصلاح والحرص على مصلحة المواطن وطمأنته إلى المستقبل والتي تجلت في قرار خطير مثل "هيئة البيعة" سوف تستمر، ومثلما اتسعت دائرة القرار في أكبر المسائل وهي الحكم، سوف تتسع في ما دونها لتشمل المواطن المتطلع إلى مزيد من الإصلاحات الكفيلة بإشراكه في دوائر صنع القرارات المتعلقة بحياته اليومية من تعليم وبيئة وثقافة وترفيه.