قبل عدة أشهر صرح خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أنه "لا نستطيع أن نبقى جامدين، والعالم من حولنا يتغير". بالطبع تلقينا التصريح على أنه إشارة إلى التغيرات السياسية المتلاحقة، غير أنني أزعم أن تصريحه حفظه الله، يشمل مسائل أبعد من مجرد السياسة على أهميتها، ويمكن استيعاب ذلك من اهتمامات الملك ومتابعته للتحولات الاجتماعية والحضارية في العالم، وحرصه على لقاء المفكرين والباحثين والتحاور معهم في هذه المتغيرات. فالمؤثرات الأهم على الحياة اليوم لم تعد السياسة وحدها، مثل من فاز في الانتخابات هنا ومن خسرها هناك؟ من نزل إلى الشارع غاضبا مغضباً ومن كان حكيماً فبقي في بيته؟ من فجَّر نفسه في الموصل أو من اختطف 150 مواطناً في بغداد؟ كل ما سبق مهم، يصنع الصفحات الأولى كل صباح، ولكنها أخبار لا تصنع التاريخ ولا التحولات المهمة في اقتصاديات الدول وحياة الناس، فالمهم هي التحولات المفصلية التي يبقى أثرها لأمد طويل، وليس المؤقتة العابرة، وكذلك حال الرجال. فقبل أيام توفي "ميلتون فيردمان"، أبو نظرية اقتصاد "السوق الحُر"، التي انتصرت وسادت وباتت تحكم العالم. وبالتالي ستبقى آثاره حاضرة لقرون عدة قادمة، وإنْ احتل خبر وفاته مساحة صغيرة في صحفنا. إن معرفة أقدار الرجال تفسر ذلك الاهتمام السعودي الكبير بـ"بيل غيتس"، رئيس شركة "مايكروسوفت"، عندما زار المملكة العربية السعودية الأسبوع قبل الماضي، فحظي باستقبال حافل من كبار المسؤولين ابتداءً من العاهل السعودي شخصياً. ولم يكن هذا الاهتمام لكونه أغنى رجل في العالم، وإنما لأنه الرجل الذي غيّر العالم. هذه هي التحولات الحقيقية التي تحصل في العالم، والتي لا نستطيع أن نبقى جامدين بينما تحصل من حولنا. إن الثورة القادمة في بلدي وفي المنطقة، لن تكوك سياسية، وإنما سيطلق شرارتها انتشار الإنترنت فائق السرعة إلى كل بيت ومكتب، لتتغير حياتنا تماماً بعد ذلك، مثلما تغيرت يوم أن دخلت الكهرباء بيوتنا وقرانا، فاختلفت مواعيد العمل والزيارة، وأثرت في علاقتنا الاجتماعية، واتسعت بها المدن والبيوت. إن الـ"برودباند" كما يسمى الإنترنت فائق السرعة، ليس مجرد تحميل صورة أو أغنية في ثوانٍ معدودة، إنه أكبر من ذلك. لقد دخل الإنترنت فائق السرعة بيوتنا، ولكنه لم ينتشر، ولكنْ سيكون قريباً متاحاً لكل بيت وبرخص التراب، وعلى رجال الأعمال والتسويق و"البيروقراطيين" والتعليم وكل من لعمله علاقة بالاتصال الجماهيري، أن يستعد لذلك. لقد بدأت ثورة الاتصالات والمعلومات ولن تتوقف. في مؤتمر جمع رجال الأعمال والمعلومات حضرته مؤخراً استمعت لهم يناقشون السؤال التالي: "في أي مرحلة من مراحل الإنترنت نحن الآن؟"، فجاء الرد من أكثر من خبير بأننا لا نزال في منتصف المرحلة الأولى من حياة الإنترنت. وعلمتُ أيضاً في ذلك اللقاء أن ما اعتقدته من توسع هائل في استخدام الإنترنت، مما أستخدمه وأعيشه هنا في الولايات المتحدة، إنما هو متواضع عما هو في دول مثل كوريا الجنوبية وهونج كونج، انتشاراً وتطبيقاً، فأقل من نصف البيوت الأميركية مرتبط بالـ"برودباند"، بينما تتجاوز النسبة الـ80 في المئة في كوريا الجنوبية وهونج كونج، ودون ذلك بقليل في أيسلندا. وفي المرتبة الرابعة تأتي إسرائيل بنحو 70 في المئة. والأخيرة اعتمدت سياسة توفير الإنترنت السريع اللاسلكي كخدمة عامة مجانية أو برسوم بسيطة، ما يعني أن تشغل جهازك في بيتك أو في حديقة عامة أو مطعم لتلتقط الخدمة تلقائياً وتنطلق باحثاً عبر العالم. الخبر الجيد والذي سمعته في ذلك اللقاء أن فقر الدولة أو تخلفها لا يمنعها من الاستفادة من تقنيات الإنترنت. وضرب محدثي نموذجاً بالسنغال التي أسست فيها شركة فرنسية خدمة تلفزيون تفاعلي، لم تصل تقنيتها بعد للولايات المتحدة بسبب الحرب القانونية بين شركات "الكيبل" والفضائيات، مما يحصل كل يوم في السياسة المحلية الأميركية المتأثرة بنفوذ ومصالح الشركات الكبرى. وحيث إن عالمنا لا يقع وسط غابات القوانين والتشريعات، ولا نتمتع ببنية تحتية فائقة في مجال الاتصالات توجب الدفاع عنها، فإن الانتقال أو تحديداً القفز إلى التقنيات الأحدث، هو الأسلم والأوفر والأكثر اختصاراً للوقت، ويبدو أننا في هذا الاتجاه سائرون، فلقد منحت هيئة الاتصالات السعودية مؤخراً رخصاً لثلاث شركات لبناء شبكات "أي ماكس"، وهذه الأخير واحدة من ثورتين ستجتاحان عالم الإنترنت وما حوله. فـ"الآي ماكس"، هو البديل للشبكات السلكية. وتعني باختصار أن شركة ما تستطيع في خلال أسبوع واحد، بعد أن تحصل على الرخص اللازمة من الدولة، أن تحول مدينة كالزلفي أو العُلا إلى بيئة إنترنت حرة بالكامل، بتشييد عدد قليل من الأبراج في المدينة، والتي ستبث خدمة إنترنت فائق السرعة إلى كل بيت أو مكتب أو مدرسة، وما على المستخدم بعد ذلك إلا أن يشغل جهازه ويسند ظهره إلى نخلته المفضلة ليلتقط الخدمة، وبالطبع هناك رسوم يدفعها باشتراك شهري متواضع، وبإمكان الدولة أيضاً أن تجعل الخدمة مجانية إن أرادت ذلك. ولكم أن تتخيلوا كيف سيؤثر توفر خدمة كهذه على أداء الإدارات الحكومية التي سترتبط أقسامها حول المملكة بشبكات عالية السرعة، كالقدرة على نقل المستندات، فيتم الحصول على شهادة ميلاد صادرة في الباحة من قبل موظف في إدارة الأحوال المدنية في الدمام في لحظات. وكيف سنعكس ذلك في خدمة المواطن وتخفيف عبء البيروقراطية ثقيلة الدم عليه أو تواصل المعلم بتلاميذه ، وتعليمهم سبل البحث العلمي عوضاً عن التحفيظ السقيم. وستتغير كذلك سبل التسويق، ويفتح مجالات أوسع للتجارة الإلكترونية، ولعل البريد السعودي الذي يعيد تأسيس نفسه من جديد هذه الأيام يفعل ذلك استعداداً للتحول القادم، وسيؤدي ذلك بالتأكيد إلى زيادة فرص العمل للمرأة التي تستطيع حينها أن تعمل بأمان واطمئنان من بيئة عمل منعزلة عن الرجال، كما يلح المحافظون، ولكنْ منفتحة على العالم كله. ولا أعرف إذا كان هذا مما يوسع صدرهم أو يضيقه، فهؤلاء قوم يصعب إرضاؤهم لغلبة سوء الظن عندهم. وبينما ثورة الـ"آي ماكس" متاحة اليوم، فإن الثورة الثانية آتية لا ريب فيها خلال سنة أو اثنتين، متمثلة في الجيل الثاني من الإنترنت، وقد فسره لي أحد الخبراء كالتالي: تخيل أنك تريد أن تضع كاميرات مراقبة في كل أركان شركتك، لتتابع ما يجري فيها من مكتبك أو بيتك من خلال شبكة الإنترنت ومن على شاشة واحدة. اليوم تحتاج إلى شركة مختصة لتطبيق ذلك، أما مع الجيل الثاني للإنترنت فستذهب بنفسك إلى متجر، لشراء ما تريد من كاميرات وبرنامج ثم تركب ما تريد وفق تعليمات سهلة وبرنامج قادر على استيعاب كل متطلبات التصوير والنقل والتسجيل والأرشفة، بل حتى تحليل ما يراه غريباً لإرسال إنذار، وتفعل كل ذلك بنفسك، أو أن تكون معلماً تتحدث إلى ثلاثين من طلابك في وقت واحد من على شاشة كمبيوترك، بينما هم في منازلهم، من دون أن ينقطع الاتصال أو يتوقف ولو للحظات. ما سبق ليس ترفيهاً، وإن كانت شركات الترفيه والتلفزيون والموسيقى ستجد فيه منجماً للذهب. إنه تحول كامل في التعليم والإدارة، فمن استعد له سيحقق مكاسب سريعة، ومن تأخر سيحقق مكاسب، ولكن أقل ممن سبقه. إنه عالم جديد لا تستطيع إلا أن تكون جزءاً منه.