في نهاية الأسبوع الماضي تعرض النظام المالي العالمي لأزمة حقيقية كادت تؤدي إلى إفلاس مؤسسات مالية عريقة وكبيرة وإلى انهيار العديد من صناديق التحوط التي نشطت في السنوات القليلة الماضية، وذلك بسبب أزمة قروض الرهن العقاري عالي المخاطر، مما قد يؤدي الى أضرار بالغة باقتصاديات بلدان العالم. التحرك السريع والمنظم من كافة بلدان العالم وحده الذي أنقذ الموقف، المشكلة ظهرت في الولايات المتحدة مع الإعلان في بداية أغسطس الجاري عن إفلاس "مؤسسة أميركان هوم مورغرج" لإعادة تمويل القروض العقارية وتسريح 7400 موظف وانخفاض سعر سهمها من 36.4 دولار الى 28 سنتاً فقط خلال عام واحد. وامتدت هذه المخاوف لتهدد بلدان أوروبا واليابان وأستراليا، بل وحتى بلداناً أقل تطوراً، كالفلبين وإندونيسيا، فانخفضت بورصات هذه البلدان بنسبة تراوحت ما بين 3-3.2% خلال يوم واحد فقط، وهي نسبة كبيرة لم تعهدها البورصات الأميركية والأوروبية منذ فترة طويلة. عملية الإنقاذ جاءت من كافة هذه الأطراف، إذ سارع بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي إلى ضخ دفعتين من الأموال، إلا أن المساهمة الرئيسية جاءت من أوروبا بمبلغ تجاوز مائة مليار يورو، بالإضافة إلى أكثر من 8 مليارات دولار من البنك المركزي الياباني لتفادي خطر انهيار أسواق المال العالمية، تبعتهم المصارف المركزية في الصين وماليزيا وأستراليا، متناسين جميعاً التناقضات وتضارب المصالح الاقتصادية، وربما هذه واحدة من إيجابيات العولمة التي أدمجت اقتصاديات العالم وفتحتها بعضها على بعض، بحيث أصبح من الضروري تعاون الجميع وقت الأزمات لتفادي وقوعها. أين يقع أصل المشكلة؟ في الآونة الأخيرة قامت بعض الشركات والمؤسسات المالية بالتوسع في تقديم قروض الرهن العقاري عالية المخاطر، وذاك بهدف زيادة الأرباح وفرض أسعار فائدة عالية على قروض الأفراد الذين لا يتمتعون بسجل ائتماني جيد، مع تحمل المخاطر الناجمة عن ذلك، إلا أن المحظور قد وقع وأخذت هذه الشركات تعاني من صعوبات أدت إلى ارتفاع أسعار الفائدة بين البنوك والتي فاقت امكاناتها، مما قد يدفعها للإفلاس ويضر ضرراً بالغاً بالنظام المالي العالمي ككل بسبب ثقل الاقتصاد الأميركي في العالم، حيث كانت البداية بالانخفاض الكبير في البورصة الأميركية والبورصات العالمية الرئيسية. لذلك جاء تحرك البنوك المركزية بضخ مئات المليارات، التي بلغ مجموعها 275 مليار دولار وتوفير السيولة اللازمة من دون مخاطر مالية أو ترك نتائج سلبية على المجتمع ككل، مع المحافظة على سلامة النظام المالي العالمي. من حسن حظنا في الخليج والعالم العربي أن توقيت الأزمة جاء في عطلة نهاية الأسبوع، حيث العطلة الأسبوعية للبورصات والمؤسسات المالية العاملة في بلدان المنطقة، وإلا لشهدنا انخفاضات مماثلة في الأسواق المالية في البلدان العربية. نأتي الآن لموضوع العولمة، الذي يتداخل مع هذه الأزمة وتشعباتها، حيث اختلف المحللون والمفكرون حول العولمة، فالبعض منهم رأى فيها شروراً وعواقب سلبية، وبالأخص على البلدان النامية، في الوقت الذي رأى البعض الآخر فيها اندماجاً وفرصاً وتحديات لمختلف بلدان العالم. الانفتاح وعصر تقنية المعلومات والإعلام والعولمة حقيقة موجودة لا بد من التعامل معها سواء ناسبتنا أم لم تناسبنا، فتأثيراتها سوف تطال كافة بلدان العالم كما رأينا في أزمة قروض الرهن العقاري السابقة، فصناديق التحوط والمصارف والمؤسسات المالية والاقتصادية اكتسبت في الآونة الأخير طابعاً عالمياً لا سابق له، وأدى ذلك إلى اصطفاف جديد للقوى الاقتصادية في العالم وانتقال قطاعات صناعية واقتصادية بكاملها من بلدان معينة إلى بلدان أخرى للاستفادة من الميزات النسبية ورخص الأيدي العاملة وحرية التجارة وانفتاح الأسواق. يقودنا هذا الحديث إلى الإمكانيات الهائلة التي توفرها العلاقات الاقتصادية الجديدة وتداخل اقتصاديات بلدان العالم في محاصرة وحل الأزمات الاقتصادية والمالية التي يمكن أن تطرأ في أية لحظة نتيجة للتوسع الاقتصادي العالمي ومحاولة الشركات العالمية تضخيم أرباحها مستفيدة من الفرص المتوفرة في الأسواق التي أزيحت عنها القيود السابقة. بقي أن تستفيد بلدان العالم، بما فيها البلدان العربية والبلدان النامية بشكل عام من الهزة السابقة الخاصة بقروض الرهن العقاري، خصوصاً أن معظم هذه البلدان لا تملك السيولة النقدية الكبيرة التي تتيح لها التدخل بقوة لتفادي حدوث أزمة مالية في أسواقها، علماً بأنه إذا ما استثنينا البلدان النفطية والبلدان الناشئة، كالصين والهند، فإن بقية البلدان ذات تأثير اقتصادي ضئيل في العلاقات الاقتصادية الدولية.