يعتقد كثيرون هنا في بنغلاديش، وفي أنحاء أخرى من العالم، أن فكرة الأرصدة الصغيرة لا تثمر عن النتائج المرجوة منها ولا تحقق غايتها في مكافحة الفقر والحد منه، إلا حين تمنح للفقراء الموهوبين القادرين على إدارة الأعمال الاستثمارية الصغيرة. ويقترن هذا الاعتقاد باعتقاد آخر مفاده ندرة هذه الفئة الأخيرة من الفقراء. وفيما يقوله هؤلاء تأكيداً لقناعتهم هذه، أنه وفيما لو منحت هذه الأرصدة الصغيرة المحدودة لما يعادل نسبة 90 في المئة من الفقراء، فإنها لن تؤدي غرضها إطلاقاً. وما أود قوله رداً على هؤلاء، هو أن مثل هذه الأفكار تزعجني كثيراً وتسبب لي شعوراً بالتضايق. والحقيقة أن كل البشر، من دون أي استثناء، ومن دون اعتبار لعوامل الزمن والجغرافيا والحدود السياسية واختلاف التقاليد والبيئات وغيرها، جميعهم مديرو أعمال بشكل أو بآخر، وذلك بحكم طبيعتهم البشرية نفسها. وإذا ما بدا لنا بعضهم بهذه القدرات الإدارية في حين بدا الآخرون محرومين منها، فإن هذا الاختلاف إنما يعود إلى طبيعة المجتمعات البشرية التي نعيش فيها، وليس إلى طبيعة البشر أنفسهم. والمقصود بهذا حرمان مجتمع ما لفئات اجتماعية بعينها من الفرص الملائمة لإطلاق هذه القدرات في أفرادها وإعطائها حق التعبير عنها. وقد كان تطبيق هذه القناعة عملياً هو ما قام به بنك "جرامين" منذ وقت مبكر من تأسيسه، وذلك في تجربته التي خاضها مع فئات النساء الفقيرات في بنجلاديش. فمما سمعناه من الكثيرات منهن: "لتعطي هذا القرض لزوجي وحده... فلست أنا من يعرف كيف يدير هذا المال". وتعبر هذه الاستجابة، كما نرى، عن غياب أدنى شعور بالثقة الذاتية من قبل النساء البنغاليات المستهدفات بهذا التمويل المصرفي المخصص لهن، في قدرتهن على إدارة المال والأعمال. لكن مع مضي التجربة والسنوات، فقد بلغ عدد المدينين/المالكين لأسهم البنك حوالي 7.5 مليون، تشكل النساء نسبة 97 في المئة منهم. ليس ذلك فحسب بل سيطرت النساء الفقيرات على عضوية مجلس إدارة البنك، مع العلم أن عدد موظفي البنك هو 27 ألفاً، بينما نمت فروع البنك لتبلغ 2500 فرع منتشرة في شتى أنحاء البلاد. وفي الحقيقة فإن إطلاق عنان هذه القدرات الإدارية في البشر، لهي عملية أقرب إلى التنقيب عن النفط أو حفره. فأنت تعلم مسبقاً بوجود النفط في المساحة المحددة التي تجري فيه عمليات التنقيب ثم الحفر لاحقاً، ولذلك فإن كل الذي يلزمك القيام به هو تحديد الكيفية التي سوف توصلك إليه وتمكنك من استخراجه من داخل طبقات الأرض. وربما تبدأ هذه العملية بدايات خاطئة مضللة، إلا أن المؤكد أنك سوف تبلغ غايتك في نهاية المطاف. وينطبق الشيء نفسه على إطلاق هذه القدرات الإدارية الكامنة في البشر، لكونها موهبة فطرية كامنة فيهم. فما أن ندركها ونتبينها، حتى تقتصر حاجتنا على كشف النقاب عنها والبدء في توظيفها واستخدامها على النحو الذي نريد. ولا دليل أنصع على هذه الحقيقة من تجربة تعاملنا مع فئات الشحاذين في بنجلاديش. وفيما يبدو فقد أخفقت كل البدائل والخيارات المتاحة لفئات الرجال والنساء من الشحاذين، في لحظة ما من لحظات حياتهم، ما اضطرهم اضطراراً لأن يصبحوا شحاذين. ومن حينها فقد أصبح النشاط الوحيد المتاح أمامهم لضمان قوتهم وقوت عائلاتهم وأطفالهم اليومي، هو الخروج إلى الشوارع والأماكن العامة طلباً لعطف الآخرين ومساعدتهم. وكان طبيعياً أن تتحول الخطوة الأولى في هذا الطريق إلى روتين يومي، يدفع الشحاذ إلى طرق أبواب وقلوب الآخرين طلباً للمساعدة... أي أنها تحولت إلى مهنة وعمل. فماذا كان اقتراحنا لهؤلاء الشحاذين؟ طالما أنكم تطرقون الأبواب بيتاًِ فبيتا وتسألون الناس، فما الذي يمنعكم من أن تحملوا معكم بعض البضائع الخفيفة بغرض بيعها لهم، سواء كانت حلوى أو بسكويت أو لعباً صغيرة للأطفال؟ فأنتم ذاهبون إلى هناك في كل الأحوال. وللمزيد من تسهيل الفكرة عليهم قلنا لهم إن بيع هذه البضائع الخفيفة لن يشكل عبئاً إضافياً لهم، بل لا يزال في وسعكم المضي في طلب المساعدة المجانية من الناس، في حال عدم نجاحكم في بيع البضائع الصغيرة التي تحملونها معكم. وللمزيد من التشجيع والتعامل الواضح معهم، أخبرناهم أن في مقدورهم كسب قوتهم اليومي بأنفسهم، وأنه ليس عليهم الاعتماد الكامل على مساعدات الآخرين لهم. وبعد إبداء الكثير منهم موافقته على هذا العرض، أعطيناهم ما يتراوح بين 15 إلى 20 دولاراً لشراء البضائع الصغيرة التي سيقومون بتسويقها. ولم تكن تلك المبالغ منحة من البنك، إنما كانت قرضاً صغيراً الزموا بسداده من الأرباح التي يجنونها من نشاطهم التسويقي. فماذا كانت النتيجة؟ لقد شارك في هذا البرنامج حوالي 100 ألف من الشحاذين، من دون أن يتلقى أي منهم أي تدريب كان. وكل الذي فعلناه معهم أننا أعطيناهم المبلغ المالي المقترح وتركنا لهم حرية اختيار النشاط الذي سوف يستثمرونه فيه. واليوم تحول 10 آلاف منهم إلى مديري أعمال يعملون بدوام يومي كامل، بما في ذلك تحول بعضهم إلى متسوقين عن الآخرين. فبحكم العادات الاجتماعية السائدة، يحرم على النساء الذهاب إلى السوق لشراء الأغراض التي يحتجن إليها في المنزل، مثل أعواد الكبريت وما إليها. ذلك أن من واجب الزوج شراء هذه الأغراض وإحضارها لزوجته. وكما هي العادة أيضاً، فما أكثر أن ينسى الأزواج وصايا النساء، ما دفعهن للاستعانة بالشحاذين لإحضارها لهن بدلاً من الأزواج. وتطور الأمر لأن تعطي إحداهن الشحاذ قائمة كاملة بالمشتريات التي تريدها من السوق ليحضرها لها مقابل أجر متفق عليه مسبقاً بينهما. إلى ذلك يمكنني تصنيف الـ90 ألفاً من الشحاذين المتبقين المشاركين في هذا البرنامج على أنهم "شحاذون جزئيون" في طريقهم للتخلص من الاعتماد الكامل على استجداء عطف الآخرين. أما بلغة المال والاقتصاد فمن الصحيح وصفهم بأنهم يعيدون هيكلة نشاطهم الاقتصادي، بمعنى أنهم ماضون نحو إغلاق "قسم الشحاذة" في حياتهم، مقابل فتحهم لـ"قسم المبيعات". ومما لا شك فيه أن هذه العملية سوف تستغرق بعضاً من الوقت. وإنه مما يسعد المرء أن يرى مبلغاً لا يتجاوز العشرين دولاراً وهو يحدث هذه التحولات الكبيرة المثيرة للإعجاب في حياة الآلاف من الشحاذين! ــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيز"