شهدت الدولة في الأيام الماضية سلسلة إضرابات عمالية نتج عنها أعمال شغب جماعية أدت إلى إصابات وأضرار جسيمة في ممتلكات حكومية وخاصة، إضافة إلى تعطيل العمل في المنشآت ومواقع العمل. ويُلاحظ ازدياد وتيرة ونوعية الإضرابات العمالية؛ فمن الإضرابات السلمية المتمثلة في الامتناع عن العمل أو الامتناع عن مغادرة اسكان العمال لحين التوصل إلى تسوية مع الشركات، أخذت الإضرابات منحى خطيراً بتحولها إلى عنف جماعي وتدمير للممتلكات أو عنف منظم إن صح التعبير. وبدأت المطالبات تأخذ منحى يتعدى الحقوق القانونية المنصوص عليها في اتفاقيات العمل الموقعة بين طرفي العلاقة "العمال وأرباب العمل". وبدا أن تدخل الجهات الحكومية من وزارة العمل ووزارة الداخلية واللجان العمالية لم يعد مجدياً، خاصة وأن الإضرابات العمالية تجاوزت الخطوط الحمراء، وبدت تشكل خطر على المجتمع والدولة، وظهرت الحاجة إلى معالجة المشاكل من جذورها، خاصة وأن الطفرة العمرانية ستستدعي المزيد من الأيادي العاملة والمشاريع المنجزة ستتطلب عمالة في قطاعات الخدمات، وبالتالي هي حلقة مستمرة من العمالة الوافدة تبدأ بالتشييد ولن تنتهي، مادامت الدولة بحاجة إلى عمالة وافدة خدمية، فهناك حاجة ملحة لمناقشة قضايا العمالة الوافدة إعلامياً ومجتمعياً وحكومياً؛ فدولة الإمارات ملتزمة بضمان الحقوق والحريات وهي تستمد التزامها بالدرجة الأولى من ديننا الإسلامي وشعب دولة الإمارت لا يرتضي الانتهاكات من ناحية، ولن يرضى عن تشويه سمعة الدولة في المحافل الدولية، وبالتالي هناك حاجة لمناقشة الحلول والبدائل إن وجدت. تنامي الاهتمام الدولي بأوضاع العمالة الوافدة بدولة الإمارات، وبدء منظمات حقوق الإنسان بالتركيز على أوضاع العمالة الوافدة بإصدار التقارير والبيانات التي تتناول أوضاع عمال قطاع البناء والتشييد بشكل خاص، وكان أبرزها تقرير منظمة مراقبة حقوق الإنسان والمسمى بـ"بناء الأبراج وخداع العمال: استغلال عمال البناء المهاجرين في الإمارات العربية المتحدة"، وهي تقارير من شأنها النيل من سمعة الدولة على المستوى الخارجي، وبغض النظر عن وجهة نظرنا في محتوى هذه التقارير، إلا أنها تسلط الضوء على وضع قائم وهي قضية حساسة لأنها لا تمس اقتصاد الدولة، فحسب بل تمس قضايا قانونية وسيادية بالمقام الأول، لذا سعت الدولة للتعامل بحزم مع انتهاكات حقوق العمال عبر اتخاذ إجراءات قانونية صارمة تجاه الشركات التي تمتنع أو تؤخر صرف الرواتب بغض النظر عن الأسباب المقدمة من أرباب الشركات إضافة إلى تحسين أوضاع العمل والأوضاع المعيشية وصحة وسلامة العامل. إلا أن الإجراءات الحكومية المتخذة لم تكن كافية بدليل تصاعد وتيرة الإضرابات العمالية وتزايد الحاجة للبحث عن بدائل حكومية للتعاطي مع القضايا العمالية سواء أكانت حقوقاً أم واجبات للعامل أم لأرباب العمل وأصحاب الشركات خاصة شركات البناء والتشييد. تطرح الإضرابات العمالية وكذلك التقارير الدولية فكرة تشريع التنظيمات العمالية وحق التفاوض الجماعي على شروط العمل أي النقابات العمالية، مما يتطلب إعادة النظر في الأطر القانونية التي تحكم سوق العمل بدءاً بدستور دولة الإمارات وحتى قانون العمل الاتحادي رقم (8) الصادر عام 1980، واعتماد المعايير الدولية خاصة بالانضمام إلى اتفاقيات العمل، اتفاقية رقم (98) بشأن تطبيق حق التنظيم والمفاوضة الجماعية والاتفاقية رقم (87) بشأن اتفاقية الحرية النقابية وحماية حق التنظيم، إضافة إلى الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم. وسواء جاء تحرك الدولة استجابة لضغوطات خارجية أو داخلية، حكومية أوغير حكومية، فإن مناقشة تشريع النقابات العمالية تتطلب الإحاطة بالأمر من كافة جوانبه التشريعية والتنظيمية. بشكل عام تهدف التنظيمات العمالية في أغلب دول العالم إلى تحقيق عدد من الأهداف المشروعة منها: الدفاع عن حقوق العمال ورعاية مصالحهم، والعمل على تحسين شروط وظروف العمل، رفع مستوى العمال الثقافي والاجتماعي، المشاركة في وضع وتنفيذ خطط وبرامج التدريب المهني، إبداء الرأي في التشريعات المتعلقة بالعمل، وغيرها من الأهداف المنظمة لعلاقة العمال بأرباب العمل في ضوء قوانين الدولة. إن التشريع بتشكيل النقابات العمالية يستوجب التمييز بين نوعين منها النقابات العمالية في القطاعات الحكومية والنقابات العمالية في القطاع الخاص، ولا يتطلب الأمر الاستناد للإحصاءات، ففي ضوء التركيبة السكانية ونسبة العمالة الوطنية في القطاعين الحكومي والخاص بدولة الإمارات، فإن النقابات العمالية ستخضع لسيطرة العمالة الوافدة من جنسية آسيوية محددة، وبالتالي سيكون لها انعكاسات أمنية خطيرة، لذا تطرح وجهة نظر معارضة لتشريع نقابات لا تخدم المجتمع والدولة، فيما ترى جهات حقوقية أن بإمكان دولة الإمارات الاستناد إلى المعايير الدولية والمواءمة بينها وبين القوانين المحلية لإنتاج نموذج أو صيغة هي منزلة بين الاثنين خدمة للمصالح الوطنية العليا. حقيقة أن الإشكالية التي تواجه النظر إلى القضايا العمالية والتنظيمات العمالية بشكل أساسي هي أن التنظيمات النقابية ستعكس مصالح فئات وافدة على المجتمع قد لا تلتقي بالضرورة مع مصالح المجتمع والدولة، كما أن الإضرابات العمالية المتتالية خلقت بيئة سلبية تجاه الطرق التي يمارس فيها العمال ضغوطهم على القطاع الخاص والحكومة تلبية لمطالبهم، في ظل بيئة مجتمعية تحض على الطرق السلمية للتوصل للحلول وعبر القنوات القضائية التي تلجأ إليها غالبية أعضاء المجتمع للحصول على حقوقها، وهي الطرق التي حددها المشرع في قانون العمل الاتحادي فيما يتعلق في الفصل الحادي عشر الخاص بـ "منازعات العمل الجماعية". تواجه الدولة ضغوطا متنامية لتشريع حرية التنظيم العمالي والتفاوض الجماعي، وهناك إشكالية داخلية متنامية متمثلة في الإضرابات العمالية والتجمهرات العمالية في الشوارع مع ظهور بوادر تحريض منظم للعمال، وقبل أن تطرح أي خيارات، فلتكن مصلحة الدولة وعلى المدى الطويل هي المحرك الأساسي لطرح الخيارات. حالياً مواجهة الأوضاع القائمة تستلزم فرض رقابة على القطاع الخاص وإدارة شركات البناء والتشييد بشكل خاص، وزيادة جهود الدولة في تفعيل قنوات الشكاوى العمالية عبر وزارة العمل وتفعيلها بما يقدم نموذجاً حول فعالية الحلول التي تقدمها الجهات الحكومية الرسمية، وفي الوقت ذاته عدم التهاون مع الجهات المحرضة للإضرابات العمالية حال وجودها، فالأمن المجتمعي له الأولوية، ومن ثم ثنائية الحقوق والواجبات.