كثيراً ما تستحضر وسائل الإعلام والمحافل العالمية المختلفة عبر الملتقيات والمؤتمرات عبارة المنظومة الدولية، أو المجتمع الدولي، إلى درجة أنها أصبحت جزءاً من القاموس الاصطلاحي الدارج، وتحولت إلى عبارة مألوفة قلما ينتبه الناس، أو يسعى الباحثون إلى تفسيرها بوضع تعريف محدد لها، يوضح ماهيتها ويميط اللثام عن معانيها الحقيقية. فما هو إذن المجتمع الدولي، موضوع هذه التساؤلات، وكيف نحدد مفهومه؟ فلو نظرنا بداية إلى المجتمع الدولي من زاوية شاملة تأخذ في عين الاعتبار كوكب الأرض لاعتُبر مجتمعاً وطنياً ضمن حدود الأرض، ومحاولة معلنة من قبل الدول لإدارة شؤون العالم والسهر على إيجاد الحلول المناسبة لأزماته المتعددة باسم المصلحة العامة. وعادة ما يتم الحديث عن المجتمع الدولي عند ظهور المشاكل الكبرى التي تهدد استقرار السلم والأمن الدوليين. وهكذا تصبح الحاجة إلى مجتمع دولي، أو منظومة دولية مهمة في ظل وجود مصلحة عامة مشتركة تتقاسمها شعوب الأرض، وما يستتبع ذلك من ضرورة وضع قواعد متفق عليها تضمن للجميع الأمن والسلام، وبلورة آليات فعالة لحل المشاكل في حال ظهورها على المسرح العالمي. وقد ازدادت الحاجة إلى المجتمع الدولي وأصبح حضوره ضرورياً في ظل التحولات التي يشهدها العالم اليوم وتقارب الدول والثقافات في إطار العولمة. فقد تدانت المسافات المتنائية وبات العالم قرية صغيرة مع إمكانيات هائلة للتفاهم والتواصل لم تكن متوفرة في الماضي. وبالطبع يضاف إلى ذلك تأثير الهجرات المختلفة لشعوب العالم إلى أماكن ومناطق جغرافية بعيدة ساهمت في تلاقح الثقافات المختلفة وتشكل ما يشبه الحضارة العالمية الواحدة. بيد أن هذا المفهوم المثالي للمجتمع الدولي والقائم على شمولية القواسم الإنسانية المشتركة سواء الثقافية، أو الاقتصادية، بدأ ينحرف عن هذا التصور حتى لو كان الأمر يتعلق ببضع دول تشكل المنظومة الدولية والمجتمع الدولي. فنحن نرى بوضوح أن دول العالم لا تقتسم كلها نفس المصالح، ولا نفس الأفكار والتصورات التي قد تشكل أرضية صلبة لمجتمع دولي حقيقي. فهل يمكن مثلاً الحديث عن منظومة تجمع بين الولايات المتحدة وإيران في مجتمع دولي واحد، أو بين بورما وسويسرا؟ وماذا عن باقي الفاعلين الدوليين على الساحة العالمية مثل الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية والحركات الإرهابية وغيرها من الأطراف التي أصبحت تحركاتها تؤثر بشكل واضح على العلاقات الدولية، لكن من دون اعتبارها جزءاً من المجتمع الدولي كما هو معروف لدى الباحثين؟ ورغم أن العالم اليوم لم يعد ثنائي القطبية وبالتالي انتفت، ولو نظرياً على الأقل، أسباب التنافس الدولي التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة، إلا أنه مع ذلك لم يتم الاتفاق على الرهانات والمصالح العالمية المشتركة بين مختلف دول العالم. ويرجع ذلك ربما إلى غياب حكومة عالمية تلعب دور الحكَم، أو الوسيط النزيه في حل الأزمات الطارئة والبحث عن القواسم المشتركة بين الدول لتفادي نشوب النزاعات بينها. ففي المحصلة النهائية يتوزع العالم على مجموعة من المصالح المتباينة والتطلعات الدولية المتناقضة مع الاهتمام أحياناً بالمصالح الضيقة والقصيرة المدى على تلك التي تغلب المصلحة العامة. ومع ذلك يمكن الإشارة إلى نماذج متفرقة لعمل المجتمع الدولي على الساحة العالمية، لاسيما فيما يتصل بالكوارث الطبيعية، والتغيرات المناخية، أو الانتشار النووي وتفشي الأوبئة والأمراض الخطيرة التي تستوجب عملاً دولياً مشتركاً وتكاتفاً للجهود العالمية. والمشكلة أن الحدود بين الدول، وإن كانت لا تستطيع درء الأخطار، أو منع انتقال الكوارث الطبيعية والأمراض، إلا أنها تبقى حائلاً دون صدور قرارات مشتركة تعكس وجوداً حقيقياً للمجتمع الدولي. وبرغم وسائل الاتصال المتطورة التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة، فضلاً عن وفرة المعلومات عن المناطق البعيدة لا تزال الدول تجهل بعضها بعضاً، ولا يزال سوء الفهم متفشياً على نطاق واسع بين شعوب العالم. وبالعكس من ذلك تماماً يبدو أن الفرص الجديدة التي أتاحتها حركة العولمة وتسهيل التبادل وانتقال الخدمات ورؤوس الأموال، ساهمت في تعميق الهوة بين أعضاء المجتمع الدولي وزرعت الفرقة بينهم بسبب التفاوت الرهيب في اقتناص الفرص والإفادة منها. فمازالت فئات واسعة من شعوب العالم تعيش ظروفاً صعبة ولم تنتفع من ثمار العولمة كما كان مؤملاً. والأكثر من ذلك أن مفهوم المجتمع الدولي لدى الرأي العام مرتبط بالسلبية وغياب التحرك الفعال. وإذا ما تواجد فعلاً كيان جدير باسم المجتمع الدولي فهو يبقى، مع الأسف، رمزاً للعجز وعدم الفعالية بالنظر إلى الأزمات المتعددة التي فشل في حلها، أو معالجتها مثل تلك التي تعصف بالشرق الأوسط، أو أفريقيا لعقود عديدة. وفي هذا السياق يحق لنا التساؤل عن دور المجتمع الدولي الذي عجز، إلى حد الآن، في ردم الهوة المتسعة بين دول الشمال والجنوب وتوفير الاحتياجات الأساسية للشعوب مثل المياه والصحة وغيرهما. والواقع أن غلبة المصالح الفردية للدول ليست هي ما يعيق انبثاق مجتمع دولي حقيقي، بل إن غياب رؤية بعيدة المدى هي ما يحول دون ذلك، وشيوع تلك النظرة الواهمة لدى البعض بأنهم قادرون على فرض وجهات نظرهم على الآخرين حتى ولو كانوا أقلية على الساحة الدولية. وأخيراً لا يمكن لمجتمع دولي حقيقي أن يتبلور ويضطلع بدوره من دون علاقات دولية قائمة على التعددية واحترام آراء الدول الأخرى باعتبارها رؤى مشروعة من دون أن ننسى ضرورة تغليب المصلحة العامة على ما سواها. والأهم من ذلك ألا تحتكر دولة، أو مجموعة صغيرة من الدول دون غيرها تحديد المصلحة الدولية العامة والسعي إلى فرضها.