تظهر متابعة النموذج العام لتطور الصراع العربي- الصهيوني منذ صدور وعد بلفور في عام 1917 وحتى الآن أن كارثة تحل بالعرب كل ثلاثين عاماً، وبالتحديد في شهر نوفمبر من هذا العام. لستُ بطبيعة الحال من أنصار منطق "الخزعبلات" في التحليل السياسي، ولكن الملاحظة واجبة التسجيل على أية حال على الأقل لأنها تكشف لنا -بغض النظر عن نموذج الثلاثين عاماً والسنة السابعة والشهر الحادي عشر- عن تردي الوضع العربي في هذا الصراع. في نوفمبر من عام 1917 صدر وعد بلفور الذي نظرت بموجبه الحكومة البريطانية بعين العطف إلى مطلب إنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. لم يكن مهماً أن الوعد قد تحدث عن "وطن" وليس "دولة" كما أرادت الحركة الصهيونية، ولا أنه قد اشترط لتحقيق هذا المطلب ألا يمثل إجحافاً بحقوق السكان الأصليين في فلسطين، لأن الحركة الصهيونية كانت كفيلة بمعالجة كل هذه النواقص لاحقاً، ولأن الأهم من ذلك كله أن الوعد كان يعني نجاح الحركة الصهيونية في الحصول على دعم وغطاء لمطالبها في فلسطين من واحدة من أهم الدول الكبرى -إن لم تكن أهمها- في النظام الدولي في ذلك الوقت، وهو أمر بات يمثل مبدأ راسخاً من مبادئ الحركة الصهيونية في تحركها الدولي ما زالت تلتزم به حتى الآن، وما علاقتها الراهنة بالولايات المتحدة الأميركية، بل وبالقوى الصاعدة في النظام العالمي الجديد، إلا خير شاهد على ذلك. وبعد صدور الوعد بسنوات قليلة تولت بريطانيا مسؤولية الانتداب على أرض فلسطين، وفتحتها على مصراعيها للهجرة اليهودية التي أقامت البنية الأساسية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً للدولة الصهيونية. وبعد ثلاثين سنة بالتمام والكمال من صدور وعد بلفور وفي شهر نوفمبر أيضاً من عام 1947 وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار تقسيم فلسطين، وكان أول وآخر قرار من نوعه في تاريخ المنظمة الدولية: أن تصدر قراراً بتقسيم إقليم إلى دولتين ناهيك عن الكيان الدولي للقدس وتعين الحدود بينها جميعاً. ومع أن قرارات الجمعية العامة غير ملزمة، ولا تجد طريقها عادة إلى التطبيق، فإن هذا القرار قد طبق -وإن يكن من المنظور اليهودي فحسب- فأعلنت الدولة اليهودية على أكثر مما حدده قرار التقسيم لها من أرض فلسطين في الخامس عشر من مايو 1948، بعد حركة الانسحاب المسرحية من قبل القوات البريطانية في فلسطين، في أول وآخر سابقة انسحاب من نوعها لقوات بريطانية من أقاليم تحتلها. ولاشك أن قرار التقسيم قد أعطى شرعية دولية للدولة اليهودية الاستعمارية على أرض فلسطين بدليل قبول عضويتها في الأمم المتحدة في 1949 على الرغم من أزمة العضوية في ذلك الوقت، وهو ما يشير مرة أخرى -سواء قرار التقسيم أو قبول إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة- إلى براعة الحركة الصهيونية في تحركها الدولي. وبعد ثلاثين سنة أخرى بالتمام والكمال وفي شهر نوفمبر كذلك من العام 1977 أعلن الرئيس المصري أنور السادات عن نية زيارة القدس، وتمت الزيارة بالفعل، وأدت إلى ما أدت إليه من انقسام عربي غير مسبوق بشأن إدارة الصراع مع إسرائيل لاشك أنه أضعف الجانب العربي في هذا الصراع كثيراً. ثم كان من تداعياتها أيضاً قبول العرب على نحو شامل -اعتباراً من صيغة فاس 1982 على الأقل- سياسة التسوية مع إسرائيل، واعتبارها رسمياً خياراً وحيداً لإدارة الصراع معها، على الرغم من أن ميزان القوى المختل لصالح إسرائيل كان يقتضي إدارة عربية مختلفة بكل تأكيد للصراع معها، وخاصة أن نموذج تطور الصراع العربي- الإسرائيلي يظهر أن إسرائيل ما تنازلت يوماً للعرب إلا بعد أن أعملوا القوة ضدها، سواء كان ذلك في شكل حرب نظامية كحرب أكتوبر 1973، أو حرب تحرر وطني كما في حالتي المقاومة اللبنانية في جنوب لبنان المحتل حتى 2000 والمقاومة الفلسطينية في غزة حتى 2005، أو نوع متطور من أنواع العصيان المدني كما في حالة الانتفاضة الفلسطينية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. في الحالة الأولى أثمرت حرب أكتوبر انسحاباً إسرائيلياً من سيناء، وفي الثانية أجبرت المقاومة إسرائيل على الانسحاب مرة من جنوب لبنان في 2000 وثانية من قطاع غزة في 2005، وفي الحالة الثالثة أفضت الانتفاضة إلى اعتراف إسرائيل بالشعب الفلسطيني ومنظمة تحريره كما سجلت ذلك اتفاقية أوسلو 1993 بغض النظر عن سوءاتها الفادحة. أبت الأحداث بعد ذلك ونحن نقترب من نهاية شهر نوفمبر 2007 -بعد ثلاثين سنة بالتمام والكمال على زيارة القدس وتداعياتها- إلا أن تضعنا في مواجهة مؤتمر أنابوليس، فهل يعد ذلك من قبيل نذر الشؤم بالنسبة لهذا المؤتمر؟ الواقع أن المرء لا يحتاج كل هذه العودة للتاريخ لكي يستنتج مصير المؤتمر، فهو -كما سبق أن كتبت عنه في هذه الصفحة وكتب عشرات غيري- فاقد لكل مقومات النجاح، فلا توجد قيادة إسرائيلية قادرة على تقديم أي تنازل جوهري، ناهيك عن أن تكون أصلاً راغبة في ذلك، ولا قيادة أميركية قادرة على الضغط على إسرائيل بافتراض توافر الرغبة في ذلك، ولا قيادة فلسطينية ممثلة لكل شعبها حتى يكون بمقدورها الالتزام بنتائج المؤتمر وتنفيذها إن وجدت، ولا أطراف عربية قادرة على دعم الحق الفلسطيني. ولن يحصد العرب إزاء كل ما طالبوا به من ضمانات لهذا المؤتمر سوى وعود شفهية يملكون حالياً ما هو أقوى منها كتابة مما تمخضت عنه جولات أخرى أكثر جدية من جولات التفاوض مع إسرائيل، والهدف المعلن للمؤتمر هو بدء مفاوضات في أعقابه وليس ضمن أعماله، على أساس أن مهمته الأولى هي التوصل إلى وثيقة فلسطينية- إسرائيلية يستحيل عقلاً أن تتضمن تنازلات إسرائيلية جوهرية، وإنما لن تكون سوى تكرار لعموميات لدينا منها الكثير. والمرجعية الأولى للمؤتمر هي خريطة الطريق التي تلزم الفلسطينيين -إن كنا قد نسينا- بالقضاء على البنية التحتية للإرهاب (أي المقاومة) مقابل عدم إلزام إسرائيل بأي شيء في قضايا الوضع النهائي، اللهم إلا إنشاء دولة فلسطينية نعلم مسبقاً الضآلة الفادحة لإقليمها إذا قورن بأرض فلسطين التاريخية، وسيادتها المنقوصة، وعدم قدرتها على الوفاء بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني. لا يدري المرء في إطار هذا كله وغيره الكثير عن أية فرصة تاريخية يتحدث البعض؟ أفهم أن يقال إننا ذاهبون إلى أنابوليس لكي لا نتهم بأننا نعرقل رغبة المجتمع الدولي في إحلال سلام في فلسطين، على الرغم من أننا قد التزمنا بهذا السلوك كثيراً ولم يحقق لنا أي إنجاز. وأقبل كذلك أن يقال إننا ذاهبون إلى أنابوليس كي نشرح قضيتنا أمام المشاركين في المؤتمر، مع أننا شرحناها كثيراً من قبل دون جدوى، لكن القول إننا إزاء فرصة تاريخية يمثل دون شك استخفافاً مفرطاً بالتاريخ والحقوق الفلسطينية. كنت قد تصورت أن كارثة العام الثلاثيني قد تقدمت في هذه الدورة الزمنية الجديدة التي تختتم هذا العام بحيث حلت بنا في يونيو الماضي عندما وقع الصدام المروع بين "فتح" و"حماس"، وأفضى إلى ما أفضى إليه من انقسام فلسطيني غير مسبوق، لكن مؤتمر أنابوليس يبدو مصمماً على تأكيد تفاصيل النموذج التاريخي الذي يشير إلى موعد مع الكارثة في شهر نوفمبر كل ثلاثين عاماً. فهل يحطم العرب هذا النموذج بمحاولة لمنع الكارثة في أنابوليس والالتفات إلى الأولويات الحقيقية التي يتعين عليهم مواجهتها بعيداً عن هذا المؤتمر، إن كانوا يريدون حقاً دعم نضال الشعب الفلسطيني من أجل استرداد حقوقه؟