على الرغم من الرغبة المعلنة للمرشحين الرئاسيين للحزب "الديمقراطي" في إنهاء حرب العراق، فإن هناك نوعاً من القلق وعدم الارتياح يسيطر على قاعدة الحزب. وقد ألمح بعض النشطاء الحزبيين المتحمسين إلى أن أي رئيس "ديمقراطي" جديد- سيجد نفسه واقعاً تحت ضغط شديد يدفعه دفعاً إلى إدامة الالتزام الأميركي بمواصلة الحرب في العراق، حتى وإنْ تضمن ذلك إدخال بعض التعديلات. وهذا القلق يكشف عن مدى صعوبة إنهاء تلك الحرب المثيرة للجدل، كما يكشف في الوقت نفسه عن الحاجة الماسة لتحقيق ذلك. وإذا ما ألقينا نظرة عابرة على التاريخ الأميركي، سنكتشف على الفور مدى التعقيدات التي يمكن أن تكتنف إنهاء حرب مثل الحرب الحالية، خصوصاً وأنها اتخذت صبغة حزبية صارخة. فشبح حرب فيتنام مازال مخيماً على السجال العام في أميركا، حيث يواصل "الجمهوريون" استخدام مقولات أصبحت مبتذلة من كثرة ترديدها، مؤداها أن "الديمقراطيين" في الكونجرس، هم الذين طعنوا أميركا إبان الحرب الفيتنامية في الظهر،عندما قطعوا التمويل عن قضية كانت تحقق آنذاك نجاحاً- لكن الحقيقة هي أننا خسرنا تلك الحرب في النهاية. ومن الممكن جداً، أن تقوم الآلة الإعلامية الضخمة للحزب "الجمهوري"، بإثارة الموضوع نفسه مرة أخرى إذا ما خسرت السباق إلى البيت الأبيض في نوفمبر المقبل. فالإدارة "الديمقراطية" الجديدة ستُتهم عندئذ بالاستسلام للأشرار، وسيقُال إن "الحمائم الديمقراطيين" قد قاموا مرة أخرى بانتزاع الهزيمة من بين أنياب النصر. ومثل هذه المزاعم التي تهدف إلى خدمة الذات لا تقلص من مدى الحاجة، ولا من المبررات الداعية لإنهاء واحدة من أكثر الحروب التي خاضتها أميركا طولاً وتضليلاً. فـ"الجمهوريون" سيدعون أنه بعد أربع سنوات من الأخطاء الفادحة، فإن إدارة بوش استطاعت أن تتوصل في النهاية إلى الخيار الصحيح، وهو ضخ المزيد من القوات. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قد فقدت ما لا يقل عن 1000 جندي و150 مليار دولار منذ أن ضخت المزيد من القوات في العراق إلى أن تلك الزيادة لم تحقق هدفها المحدد: وهو توفير مهلة للحكومة العراقية لتمكينها من الوفاء بالمعايير التشريعية الثمانية عشر التي وضعتها والتي تعتبرها ذات أهمية حيوية من أجل تحقيق التسوية السياسية حيث لم تنجح تلك الحكومة سوى بالوفاء بأربعة معايير فقط. ليس هذا، فحسب بل ساهمت تلك السياسة في تقويض الحكومة العراقية من خلال إقدام الولايات المتحدة في إطارها على تقديم الأسلحة والأموال للجماعات السُنية المتمردة. وبصرف النظر عن الجوانب اللاعملية في سياسة زيادة عدد القوات، إلا أنها تعتبر مع ذلك مهمة لإجراء عملية قياس واقعي لتكاليف وتداعيات الانسحاب الأميركي التام. فالسيناريو المتشائم السائد حالياً يشير إلى أن رحيل القوات الأميركية من العراق سيؤدي إلى أهوال عمليات إبادة جماعية. السؤال هنا: هل هذا صحيح؟ الإجابة هي أن العراق اليوم ملك للعراقيين وهو بلد ذو حضارة قديمة وأعراف وتقاليد خاصة، مما يجعل الاحتمال الأرجح بعد رحيل القوات الأميركية، هو أن يتمكن العراقيون من عقد صفقاتهم ومعاهداتهم الخاصة، علاوة على أن الانسحاب الأميركي سيجبر دول المنطقة على الاهتمام بشأن العراق، وإدراك أن نشوب حرب أهلية فيه لن يكون في مصلحتهم، مما سيدفعهم للتوسط من أجل حل الخلافات والنزاعات بين العراقيين بدلاً من العمل على تأجيجها. إن الاحتياجات الاستراتيجية لإنهاء الحرب لم تكن مُلحة في أي وقت مثلما هي عليه الآن. فنحن نقرأ أن أميركا لم تعد محبوبة ولا محترمة في المنطقة، وأن إيران تتباهى بطموحاتها النووية وهي على ثقة بأن واشنطن المتورطة في العراق ليس أمامها خيارات كثيرة سوى الاعتراف بأخطائها. أما أفغانستان، فإنها تنزلق بسرعة كي تصبح دولة تسيطر عليها "طالبان"، في الوقت الذي تستجيب فيه إدارة بوش لهذه الحقيقة بالشكوى المستمرة من افتقار "الناتو" إلى التصميم والعزم. أما النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، فهو أبعد ما يكون في الوقت الراهن عن الحل. إن أي رئيس "ديمقراطي" أميركي يتمتع بشهر عسل قصير في الشرق الأوسط، من خلال الابتعاد عن التصرف بطريقة مثل تلك التي كان يتصرف بها جورج بوش، يستطيع أن يتخذ خطوات ضخمة نحو استعادة المصالح العملية لأميركا، ومكانتها الأخلاقية في العالم من خلال الانسحاب من العراق، كما أن أي رئيس أميركي سيكون حكيما أيضاً، إذا ما أدرك أن إدامة الحرب تتناقض مع الأجندة المحلية السليمة التي يجب إتباعها. ففي الوقت الحالي الذي يشهد عجزاً متفاقما، وننفق فيه 10 مليارات دولار في الشهر تقريباً، فإن الاحتمال الأكبر هو أن موضوعات مثل إصلاح منظومة الرعاية الصحية، وإصلاح البنية التحتية على مستوى الولايات المتحدة بأسرها، سيكون مصيرها التجاهل. إن الولايات المتحدة لديها أولويات وطنية عديدة لن تتمكن من تحقيقها، إذا ما عملت الإدارة الجديدة التي ستتولى الحكم في أميركا، على إطالة أمد هذه الحرب المكلفة وغير المقبولة شعبياً. إن المحنة التي تعرضت لها إدارة بوش، يجب أن تقدم لنا دروساً تحدد لنا من خلالها الأشياء التي لا يجب علينا عملها. إن أي أحد يريد أن يديم الحرب الحالية، يجب عليه أن يعرف أن ذلك لن يؤدي سوى إلى العجز عن تحقيق الإنجازات الوطنية، وإلى تبني سياسة خارجية انقسامية، والوقوع رهينة لصراعات لا تنتهي. والشيء اللافت للنظر أن السيناتور "مكين" يرهن سعيه للرئاسة بالاستمرار في هذا الطريق- طريق الحرب- وهو ما يمثل في رأيي إرثا "جمهوريا" يجب على أي رئيس "ديمقراطي" قادم أن يتجنبه. ـــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"