ما من شك في وجود علاقة بين المال والسلطة على مر التاريخ، فالمال عصب الحياة ومحل كل الأطماع والمحرك الذي يدير كلَّ شيء تقريباً، والسلطة هي المحور الذي يدور حوله كل الصراع. وما يشهده العالم اليوم من انتشار للرأسمالية والليبرالية، بما تنطوي عليه من سياسات اقتصادية واجتماعية، جاء على أنقاض أنظمة شمولية شيوعية واشتراكية ليعكس تبايناً واضحاً بين الفلسفة التي يقوم عليها كل نظام في نظرته إلى دور السلطة والمال، فإذا كانت السلطة في الرأسمالية تحرر المال وتحركه من أجل خلق الثروة، فإن الاشتراكية تقيده وتحصر حركته في إطار سيادة الدولة واحتكارها كل شيء. نسمع جيداً في هذا السياق تلك الأصوات التي تقول إن السلطة والمال في الأنظمة الاشتراكية بيد أشخاص لا يقدِّرون المصلحة العامة، وهو في الرأسمالية أيضاً بيد أشخاص همُّهم الأول الربح، لا سيما إذا لم يكن مرتبطاً بأية قيم تحكمه، إذ يمكن أن يتحول إلى أداة فساد. صحيح أنه لا يمكن الجزم المطلق بأن العلاقة التاريخية بين السلطة والمال كانت تتسم دوماً ببحث المال عن السلطة واستغلال السلطة للمال في سبيل تحقيق المصالح، ولكن القاعدة العامة لا تخرج عن هذا الاستنتاج الذي تؤيده شواهد التاريخ الكثيرة وتلك الماثلة اليوم للعيان. وما يمكن قوله بشأن أهمية السلطة هو أنها هي التي تتخذ القرارات وتمارس التأثير في التوجهات، ولكنها تفعل ذلك أيضاً استجابة لمطالب الشعب بصورة عامة ولضغوط جماعات المصالح المختلفة، وهي تُمارَس بأشكال مختلفة على أساس المسؤوليات الملقاة على عاتقها بموجب العقد الاجتماعي الذي ارتضته الجماعة الوطنية. وتكون السلطة بيد الدولة شبه كاملة في الأنظمة الاشتراكية، أما في الرأسمالية، فنجد بيد الدولة جزءاً منها فقط. ربما كانت المعرفة باعتبارها مصدر قوة أهمَّ ضلع في هذا المثلث، فاجتماع السلطة والمال لا فائدة منه إذا لم تقم السلطة بتوظيف المال في اكتساب المعرفة والعمل على التراكم المعرفي من خلال الاستثمار في الإنسان، والعامل الآخر المهم هنا هو توطين المعرفة، إذ لا يكفي شراء المعرفة، لأن تحويل المستورد من المعرفة إلى منتوج وطني هو الكفيل بإعداد الأرضية المناسبة للتقدم والإقلاع الحضاري، وهنا يكون اجتماع السلطة والمال مفيداً، بل إن الثروة والقوة التي تتحقق بهذا الشكل تكون مضاعفة. ما بين السلطة والمال، تقف المعرفة التي لا تعرف نظاماً سياسياً لا اشتراكيا ولا رأسمالياً، بل إنها تقع بين هذا وذلك، وتتجلى من خلال وضع السلطةِ المواردَ المالية والبشرية في حلقات بحثية، تقود إلى المعرفة بمختلف أوجهها. والوصول إلى المعرفة المتعددة يحتاج إلى الاتصال والتعاون، في تفاعل مع الآخر الذي يملك قدراً منها، فالحصول على تكنولوجيا معينة مثلاً قد يَفرِض عليك عدم نَقْلها بأي حال من الأحوال إلى طرف ثالث لما تمثله هذه المعرفة من مصدر قوة لا ينضب. بتنا الآن أمام مثلث أضلاعه السلطة والمال والمعرفة، وهذا المثلث الذي تختلف أهميته وأولوية أضلاعه باختلاف الدول، وما تقوم عليه من أنظمة، وما تملكه من موارد ومعرفة تكنولوجيا وأمن وأهداف وعقيدة، يعبِّر في الحقيقة عن شكل القوة لدى الدول، ومناط القوة هنا هو بالتأكيد قدرة السلطة فيها على حسن الجمع بين المال والمعرفة، وسواء كنا أمام دولة متوسطة الدخل أم محدودة الدخل تسعى إلى جذب المال للاستثمار بواسطة السياسات اللازمة لذلك لتحريك اقتصادها، أم كانت الدولة غنية ولا ترى داعياً لجذب المال الخارجي أو لا تمانع في دخوله بشروط تقيد من سيطرته، فإنه، في كلتا الحالين، ومهما كان حجم الدولة ونصيبها من الدخل، يبقى أن توجيه هذا المال، قلَّ أو كثر، إلى اكتساب المعرفة هو الذي يميز الدولة الفقيرة عن الغنية ومن ثمّ القوية عن الضعيفة. رغم ما يتسم به هذا المثلث من تكامل في حالة حسن استخدامه، فإن الدول تختلف في توظيف سلطتها في تكريس المال من أجل المعرفة، ففي الحالة الصحية والمرجوة إذا رغبت السلطة في التطوير والتنمية والتقدم نظرت إلى حِراك المال وجذبته لاستثمارهِ وسعت إلى الحصول على المعرفة التي تتحول بدورها إلى مصدر للقوة، ولا تكون السلطة في ذلك قد تخلت عن قدْر منها إلا بما يسمح بحسن إدارة المال لجلب المعرفة، وينطبق الأمر نفسه على المال الذي إذا رغب في فك الأغلال والقيود ونَشَد الحرية، فسيبحث عن الأنظمة والدول الأكثر انفتاحاً أو يعمل على تغيير رؤية السلطة، ونكون إذّاك بين موقفين، إما أن يحدث تزاوجٌ براجماتي بين أصحاب السلطة وأصحاب المال تحقيقاً لمصلحة الطرفين، ولنا في الولايات المتحدة مثال ساطع عن العلاقة بين المال والشركات والسلطة، أو تحدث صدامات وخلافات بين السلطة والمال، وهو أمر لا يكون إلا إذا أمسكت السلطة بالجزء الأكبر من المال، أي بجزء من القوة، وهو ما يتجلى في حالات التأميم عندما تتعارض توجهات المال مع السلطة، وقد رأينا هذا مؤخرا في فنزويلا وبوليفيا. وإذا كان الصراع بين السلطة والمال ظاهراً من خلال سعي كل منهما إلى تحقيق المنفعة، فإن المعرفة تحقق مصلحة الجميع، وهي تأتي أساساً من حسن استغلال السلطة والمال معاً، وهي ذات مكامن عظيمة، وما تسبغه على نشاط الإنسان من أفكار وقيم وأعظم ما فيها ما تحمله من مضامين فكرية في كل جوانب الحياة، بل إنها أصبحت أساس القوة، لأنها تأتي بالمكاسب العلمية التي تنعكس بدورها على الجوانب الاقتصادية والتجارية، ناهيك عن أنها تمنح الهوية رصيداً يثريها، لأن تلك المكاسب معيار للتنافس والصراع والتعاون بين الدول، فالمعرفة التي لا تُقوِّي معرفةٌ لا فائدة منها حسب الرؤية البراجماتية. والمثال على أهمية المعرفة أن الإمبراطوية العثمانية أهملتها لحساب القوة العسكرية وبذلك ضعفت وانهارت وتحولت إلى تركيا، الدولة التي تحاول الحصول على المعرفة وترغب في التقدم الذي بدا للكثير من الأتراك أنه مرتبط بالمعرفة ذات الطابع العلماني، وإن كانت ما زالت تسعى في ذلك إلى تحديد هويتها الحائرة بين الشرق والغرب. كيفما كانت الحال، فإن الاختيار بين هذا النظام أو ذاك معقود على الرغبة في تحقيق الأهداف المبتغاة، فإذا كانت المعرفة والتقدم والتنمية هي المنشودة فالرأسمالية هي السبيل، وإذا كان البحث عن السيادة الداخلية وتقييد حركة المال، فنكون أمام الرغبة في الاشتراكية، أما إذا كانت الرغبة تكمن في الجمع بين التقدم والتطور ودوران المال في تناغم مع دور السلطة التي تسهر على تحقيق الاستقرار والأمن الداخلي بما تضعه من قيود من أجل الحد من سيطرة المال، إلى جانب تحقيق المعرفة التي تخدم الإنسان في جميع الميادين، فالمطلوب هو النظام المختلط الذي قد يناسب الدول ذات الموارد الطبيعية والغنية أكثر من المتوسطة، وبهذا النظام تلتقي أضلاع المثلث من سلطة ومال ومعرفة.