ما ترك السيد حسن نصرالله في مؤتمره الصحفي يوم 8/5/2008 شكاً في الخطط والمقاصد، ولا ترك شكاً في احتقاره لسائر الاعتبارات الأخرى، التافهة من وجهة نظره، والمتعلقة بالسلم والأمن الداخلي ووحدة اللبنانيين وحرصهم على وطنهم ومدنهم واستقرارهم رغم الأزمة السياسية المستمرة منذ سنتين، وفراغ منصب رئاسة الجمهورية. قال إنه لن تحصل نتيجة إقفال طريق مطار بيروت (واحتلال المدينة فيما بعد) فتنة شيعية- سنية، ولا نزاع داخلي. وهو يقصد بذلك أنه يستطيع بقوته العسكرية الاستيلاء على بيروت ولبنان (كما فعل السوريون من قبل) دون أن يجرؤ أحد على التحدي أو المجادلة! ومع ذلك ما انتظر أحد (باستثناء المشاركين في حملته المسلحة طبعاً) أن يبادر مسلحوه ومسلحو حركة "أمل"، وفي الساعات الأولى للاجتياح، إلى إحراق تلفزيون "المستقبل" وصحيفة "المستقبل"، والدخول إلى "مؤسسة الحريري" التعليمية (التي خرّجت عشرة آلاف شاب شيعي على الأقل، خلال ربع القرن الماضي)، وباقي المؤسسات الاجتماعية، وقصف مستشفى "المقاصد" (الذي استقبل ألفاً ومائتين من جرحى وضحايا حرب صيف عام 2006). المشكلة الحقيقية أن ما حصل ببيروت ولبيروت وأهلها وسكانها خلال الأيام الأربعة الماضية، ما كان فورة عوام أو جياع، كما يحدث في بعض بلدان العالم الثالث في أزمنة الأزمات، بل تم ذلك كله بقرار إيراني ومعرفة (ومشاركة في الغالب) سورية. وقام زعيم "حزب الله" بقيادة تنفيذ القرار، مع حركة "أمل"، وحلفاء سوريا السابقين واللاحقين بلبنان مثل "الحزب القومي السوري". أما لماذا كان ذلك بالفعل؟ فبخلاف كثير من زملائي في الثقافة والإعلام، كنت أرى وما أزال، أن ارتداد "حزب الله" بعد حرب يوليو عام 2006 إلى الداخل، هو قرار استراتيجي لا رجعة عنه، وهو قرار إيراني ولاشك. فلم تعد للبنان أراضي محتلة عملياً (النزاع حول مزارع شبعا المحتلة هو بين لبنان وسوريا وليس بين لبنان وإسرائيل أو هكذا تصر سوريا!) لكي تبني عليها مشروعية المقاومة. ثم إن حرب يوليو وصلت رسالتها إلى الولايات المتحدة وإسرائيل بوضوح. وبقاء "حزب الله" على سلاحه دليل مؤكد تستطيع الولايات المتحدة وتستطيع إسرائيل استنطاقه وتفهمه في سياق التجاذبات مع إيران (وسوريا). ولذلك ما بقيت لـ"حزب الله" وظيفة تجاه إسرائيل، باستثناء ربما "العمليات التذكيرية" الصغيرة وذات الدلالة. وبقي له الأمران الأساسيان، الوظيفة الإقليمية، باعتباره أنجح الأذرع الإيرانية في امتداداتها العربية... والوظيفة المحلية، وهي ذات شقين: شق يتعلق بالصراع داخل الكيان، وشق يتعلق بالأبعاد العربية والدولية للبنان. وبالنظر إلى هاتين الوظيفتين، الوظيفة الاقليمية، والأخرى المحلية، اتخذت إيران قبل مدة قراراً استراتيجياً باجتياح بيروت. والقرار لاشك في اتخاذه، وقد قال السيد نصرالله في مؤتمره الصحفي إنها مرحلة جديدة. أما لماذا اتخذ وتقرر تنفيذه في هذا الظرف بالذات؛ فهذا ما ينبغي التفكير والتدقيق فيه. إيران في ذروة ضيقها الآن، فقد حققت بفضل اجتياح الولايات المتحدة للعراق والمشرق العربي عام 2003 امتدادات على الخطوط نفسها في العراق وفلسطين ولبنان، وثبتت هذه الامتدادات، أو ظنت ذلك، بسيطرتها في المنطقة الشيعية في العراق، وبدعم "حماس" في اجتياح غزة، وبحرب يوليو في لبنان. لكن الثمار ما أتت رغم كل شيء. فقد تعرضت مكاسبها في العراق للاهتزاز نتيجة التشارك مع الولايات المتحدة هناك ونشوب النزاع بينهما هناك على الحِصَص (نموذج مقتدى الصدر). ولا تستطيع "حماس" الاستمرار في الاشتباك مع مصر، ولذا لا يفيد الاعتماد عليها رغم الاستثمار الكبير فيها. والآن يتصاعد الملف النووي، وتتصاعد توتراته مع المجتمع الدولي. فأين تستطيع إيران التحدي والتذكير بما تملك من أوراق؟ يضاف لذلك أن الأحاديث تزداد في الدوائر الاستراتيجية عن زيادة احتمالات الضربة الأميركية لـ"النووي" الإيراني. اختارت إيران إذن بيروت وليس إسرائيل هذه المرة، وبسبب وضع "حزب الله"، ووضع بيروت، والحساسية المتزايدة للوضع مع سوريا. فالموقف السوري الآن غير ما كان عليه في حرب يوليو، لأن سوريا تتجه إلى تركيا لتتخذ منها مظلة استراتيجية بديلاً للمظلة الإيرانية؛ ولذلك فحتى العملية التذكيرية إن كانت ضد إسرائيل، فقد لا تحظى بحماس سوري. و"حزب الله" قادر ومأمون في لبنان، ثم إن الهجوم على بيروت قد يكون أقل كلفة، وأكثر تأثيراً من الناحية السياسية والاستراتيجية. في لبنان بدأ الوضع يشهد تطورات متسارعة لغير صالح "حزب الله" وتحالفاته. فقد تبين لكل المسيحيين أن الحزب وامتداداته هو الذي يمنع انتخاب الرئيس المسيحي الجديد للجمهورية؛ وذلك لصالح استمرار الجنرال عون حليف الحزب مرشحاً محتملاً، ولذا فقد ازدادت ثورة البطرك صفير على الحزب وعلى نبيه بري. وخرج المسيحيون الأرثوذكس بزعامة ميشال المرّ والمطران الياس عودة عن الصمت والتقارب مع الجنرال عون. وفي انتخابات طلبة الجامعات، والنقابات الحرة، تقدم سمير جعجع على حساب الجنرال عون، وصارت كثرة المسيحيين الكاثرة سلبية أو ضد الجنرال الهائج. هناك إذن متاعب محلية في لبنان يواجهها الحزب وتواجهها تحالفاته، وهناك الشكوك التي زرعت بعد اغتيال عماد مغنية في العلاقة مع سوريا. وهناك الضيق الإيراني نتيجة تهديد الامتدادات الإيرانية كلها، وفي الوقت نفسه الكلفة الباهظة لحرب "جديدة" مع إسرائيل. وهناك أخيراً الأهمية الخاصة لوضع بيروت وتأثيراته على العرب وفي المجتمع الدولي. فبيروت خاصرة عربية مهمة ومهمة جداً، وقد تكونت جبهة سعودية -مصرية تدعمها غالبية الدول العربية لمواجهة التشرذم والعجز العربيين، اتخذت من بيروت ولبنان منطلقاً لتحقيق أول إنجازاتها. ولذا فإن إيران و"حزب الله" يستطيعان من خلال عملية في بيروت الضرب في عدة اتجاهات: يكبحان امتداد جبهة المواجهة العربية، ويتحديان المجتمع الدولي الذي اتخذ في الأعوام الثلاثة الأخيرة أحد عشر قراراً بشأن لبنان، ويظهران الانفراد بلبنان دون سوريا التي يعمل الآن سائر أنصارها عندهم فيجعلونها تفكر مرتين قبل استبدال تركيا بهم، ويوقفون التغييرات المتجهة لغير صالحهم بالداخل اللبناني؛ ومن ضمن ذلك لملمة أشلاء الجنرال عون بعد أن تخلى عنه المجتمع المسيحي اللبناني. وهكذا يبدو هذا "الاختيار" أو هذا القرار معقولاً من وجهة نظرهم، لكن التنفيذ كان وما يزال شديد السوء وعلى "حزب الله" وحلفائه بشكل خاص. فقد بدأ بإقفال طريق مطار بيروت، دونما اهتمام حتى بربط المسألة بالاتحاد العمالي العام. ثم ظهرت الأحقاد المحلية الطائفية والسياسية في عمليات اجتياح بيروت، فقد تعرض المسلحون وبشكل مقصود لرموز سنية وبيروتية، تجنب حتى السوريون في الثمانينيات التعرض لها. ولا يمكن التعلل هنا بأن الجيش السوري جيش محترف، بينما هؤلاء ميليشيات، فالحزب ذو تجربة أهم بكثير وأكثر دلالة من أي جيش محترف، وهم مشهورون بالافتخار بذلك كله، وبالضبط والربط اللذين لا يوصفان في دقتهما ومراعاتهما للحساسيات، فهل كان السبب فوضى حركة "أمل"، والميليشيا الشهيرة للحزب القومي السوري، وسائر المحليات في الأحياء؟ لاشك أن في الأمر شيئاً من ذلك. لكن هناك أيضاً الشحن والتحريض المذهبي في السنتين الماضيتين، وقد شاركت فيه كل الأطراف، والسيد حسن نصرالله نفسه. وقد عجبت لردة فعل رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الشيخ عبد الأمير قبلان. فالذي أعرفه عنه أنه رجل طيب في الأساس، لكن كيف يقع في مطب التعرض لمفتي السنة، ولرئيس الحكومة شخصياً بهذه الطريقة؟ وقد قارنت ذلك فوراً بموقف المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين في فبراير 1984، عندما اجتاحت ميليشيا حركة "أمل" والحزب الاشتراكي بيروت احتجاجاً على اتفاقية 17 مايو مع إسرائيل، قال لي يومها الشيخ شمس الدين أمام المفتي الشيخ حسن خالد: كيف ترهن أخاك لأخذ فدية أو ثمن لذلك من خصمك؟! أنا مفجوع، كما قال شمس الدين، كأنما فقدت ولداً! لا حول ولا قوة إلا بالله. نعم يا شيخ شمس الدين، لا حول ولا قوة إلا بالله، عبارة يقولها المسلمون في المصائب. والمصيبة الآن مثلثة: عودة الخراب إلى روح المدينة وجسدها، وفقدان السيد نصرالله وكل ما بناه "حزب الله" بشهدائه وبنضاله على مدى ربع قرن، أما المصيبة الثالثة والأكبر فهي تجربة الفتنة الشيعية- السنية للمرة الأولى في تاريخ لبنان.