في مقال سابق تمت الإشارة إلى ضرورة استخدام مصطلح "التطهير العرقي" بدلاً من مصطلح "النكبة"، لأن المصطلح الأخير يؤكد العنصر الذاتي على حساب واقعة المذبحة ذاتها، كما أنه يسلط الضوء على الضحية ولا يسلطه على الجزار، ويجعل المذابح التي قام بها الصهاينة مجرد "أحداث حرب"، وليست خطة مبيتة. وقد بين "أيلان باييه"، المؤرخ الإسرائيلي الرافض للصهيونية، أنه كانت هناك خطة تسمى "الخطة داليت"، التي بدأ الصهاينة (بزعامة بن جوريون) التفكير فيها ورسمها، وتبلورت في منتصف الأربعينات، وجرى وضعها موضع التنفيذ قبل قيام الدولة. وقد استطاع المؤرخون الفلسطينيون- وفي طليعتهم وليد الخالدي، في السبعينات من القرن الماضي، من خلال جمع مذكرات ووثائق أصلية تتعلق بما جرى لشعبهم- أن يستعيدوا جزءاً كبيراً من الصورة التي حاولت إسرائيل محوها، وأن يكشفوا الخطة المبيتة المشار إليها، لكن سرعان ما تم التعتيم على الحقائق المستعادة فترة من الزمن إلى أن ظهر في ثمانينات القرن الماضي، ما يسمى في إسرائيل "التاريخ الجديد"، الذي طوّره المؤرخون الجدد لمراجعة الرواية الصهيونية عن حرب 1948، باستخدام الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية أساساً، في إظهار كذب الادعاء الإسرائيلي أن الفلسطينيين غادروا البلد "بمحض إرادتهم". واستطاع هؤلاء المؤرخون أن يوثقوا حالات كثيرة لطرد جماعي من القرى والمدن، وأن يبينوا أن القوات المسلحة الصهيونية ارتكبت عدداً كبيراً من الأعمال الوحشية والمجازر. وأما المؤرخ الإسرائيلي "بني موريس" فقد خلص إلى رسم صورة جزئية لما جرى في الواقع بالاعتماد حصراً على وثائق في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية. غير أن الصورة التي رسمها "موريس" كانت جزئية لأنه صدّق من دون تمحيص ما ورد في التقارير العسكرية الإسرائيلية التي وجدها في الأرشيفات، بل اعتبره الحقيقة المطلقة. وقاده ذلك إلى تجاهل أعمال وحشية ارتكبها الصهاينة، مثل تلويث القناة التي تصل المياه عبرها إلى عكا بجراثيم التيفوئيد، وحالات الاغتصاب المتعددة، وعشرات المذابح. كما أنه بقي مصراً على أنه لم يحدث قبل 15 مايو 1948 إخلاء للسكان بالقوة، بينما تظهر المصادر الفلسطينية بوضوح أن القوات الإسرائيلية كانت قد نجحت، قبل أشهر من دخول القوات العربية فلسطين، في طرد ما يقارب ربع مليون فلسطيني بالقوة، في وقت كان البريطانيون ما زالوا مسؤولين عن حفظ الأمن والنظام في البلد، ولو كان "موريس" وغيره استخدموا مصادر عربية، أو التفتوا إلى التاريخ الشفوي، لكانوا استطاعوا -ربما- أن ينفذوا على نحو أفضل إلى التخطيط المنهجي وراء طرد الفلسطينيين في سنة 1948، وأن يقدموا وصفاً أكثر صدقاً لفداحة الجرائم التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون. قبل 15 مايو 1948 وفي وقت كانت الأمم المتحدة مازالت تنظر في شأن مستقبل فلسطين، وكان الأمل مازال قائماً لإنشاء دولة متعددة الإثنيات والعرقيات بحيث يستطيع العرب واليهود الحياة فيها وتحقيق الحد الأدنى من التفاهم، بدأت القوات الصهيونية العمل وفقاً للخطة "داليت" التي شكلت نموذجاً لعمليات الطرد الجماعي المفاجئ بحيث تفقد القرى أي فرصة للاستعداد لتحصين مواقعها. وكانت المنطقة الأولى التي اختيرت لوضع الخطة "دالِتْ" موضع التطبيق هي الهضاب الريفية الواقعة على المنحدرات الغربية لجبال القدس، في منتصف الطريق المفضي إلى تل أبيب. واتخذ القرار بتنفيذ عملية "نَحْشون"، التي ستشكل نموذجاً للحملات التالية: الطرد الجماعي المفاجئ. وبينما كانت الخطة "دالِيتْ" الرسمية تعرض على القرية خيار الاستسلام، فإن الأوامر الفعلية لم تستثنِ أي قرية (من التدمير والطرد) مهما يكن السبب. بدأت عمليات الطرد بعمليات ترويع منظمة، حيث كانت وحدات الهاجاناه تدخل القرى بحثاً عن المتطوعين العرب وتوزع منشورات تحذر السكان المحليين من التعاون مع جيش الإنقاذ. وكانت أي مقاومة لهذه التعديات تنتهي في العادة بإطلاق القوات اليهودية النار عشوائياً وقتل عدد من القرويين، وكانت الهاجاناه تسمي هذه الغارات "الاستطلاع العنيف". وفي ديسمبر 1947، هاجمت القوات الصهيونية قرى دير أيوب وبيت عفّا و"الخصاص" التي يقطن فيها بضع مئات من المسلمين ومائة مسيحي، وشرعت في نسف البيوت في سواد الليل، بينما كان سكانها يغطون في النوم. فقُتل جراء ذلك خمسة عشر قروياً، بمن فيهم خمسة أطفال. واتبعت "الخصاص" بعملية حيفا، فبعد تبني الأمم المتحدة قرار التقسيم بيوم واحد، تعرض سكان المدينة، والبالغ عددهم 75.000 نسمة، لحملة إرهابية اشتركت في شنها الإرجون والهاجاناه. ولأن المستوطنين الصهاينة جاؤوا المدينة في العقود المتأخرة، فإنهم بنوا مساكنهم في أعالي الجبل، وبالتالي فإنهم كانوا يقطنون، من ناحية طوبوغرافية، فوق الأحياء العربية، وكان في استطاعتهم أن يقصفوا القرى والأحياء بسهولة. وشرعوا في ذلك مراراً وتكراراً منذ أوائل ديسمبر من العام نفسه. كما استخدموا وسائل أُخرى لإرهاب السكان: فعلى سبيل المثال، كانت القوات الصهيونية تدحرج براميل مملوءة بالمتفجرات وكريات حديدية ضخمة في اتجاه المناطق السكنية العربية، وتصب نفطاً ممزوجاً بالبنزين على الطرقات وتشعله. وعندما كان السكان الفلسطينيون المذعورون يخرجون من بيوتهم راكضين بغية إطفاء تلك الأنهار المشتعلة، كان اليهود يحصدونهم بالمدافع الرشاشة. وفي المناطق التي كان فيها عرب ويهود ما زالوا يتعاملون مع بعضهم البعض، كانت الهاجاناه تُحضر إلى الكاراجات الفلسطينية سيارات بحجة إصلاحها، مملوءة بالمتفجرات وأدوات التفجير، ومن ثم تفجرها. وكانت تقوم بهذا النوع من الهجمات وحدة خاصة تابعة للهاجاناه، هَشَاحَر (الفجر)، مكونة من "مستعربين"، أي صهاينة متنكرين كفلسطينيين. وفي منتصف فبراير 1948، اجتمعت الهيئة الاستشارية لمناقشة تداعيات الوجود المتنامي لمتطوعين عرب داخل فلسطين. وأخبر "إلياهو ساسون" الحاضرين أن عدد المتطوعين العرب الذين دخلوا البلد كجزء من جيش الإنقاذ لم يتجاوز حتى تلك اللحظة 3000 متطوع. وبدأت العمليات الإرهابية في 13 فبراير 1948، وركزت على مناطق عدة. فنُسفت عدة منازل في يافا، اختيرت عشوائياً، على رؤوس أصحابها، وهوجمت قرية سعسع، وثلاث قرى في جوار قيسارية. واختلفت عمليات فبراير التي خططت لها الهيئة الاستشارية بعناية، عن العمليات التي حدثت في ديسمبر: بأنها لم تعد متفرقة، وإنما أصبحت جزءاً من محاولة أولية للربط بين فكرة حركة مواصلات صهيونية غير معرقلة على طرقات فلسطين الرئيسية وبين التطهير العرقي للقرى. كانت الأهداف الأولى ثلاث قرى واقعة بالقرب من قيسارية، وقد تم اختيار القرى الثلاث لأنها كانت فريسة سهلة، إذ لم تكن لديها قوة دفاعية من أي نوع، لا محلية ولا من متطوعين قدموا من الخارج. وصدر الأمر في 5 فبراير بأن احتلوا القرى، وطردوا سكانها، ودمّروها. ثم قامت الغارة على سعسع، في ليلة 14-15 فبراير 1948، وصدر الأمر بمهاجمتها من ييجال آلون، قائد البلماخ في الشمال، وكُلف "موشيه كالمان"، نائب قائد الكتيبة الثالثة التي ارتكبت الأعمال الوحشية في قرية الخصاص بتنفيذه، وهوجمت القرية بالفعل في منتصف الليل. ونشرت "نيويورك تايمز"، في عددها الصادر بتاريخ 16 أبريل 1948، أن الوحدة الكبيرة التابعة للقوات الصهيونية لم تواجه أي مقاومة من سكان القرية عندما دخلتها وبدأت بتثبيت أحزمة الديناميت حول البيوت. وتقدم جنود "كالمان" في الشارع الرئيسي للقرية ونسفوا في شكل منهجي البيوت واحداً تلو الآخر، بينما كانت العائلات القاطنة فيها لا تزال نائمة. وتابع "كالمان" روايته "خلّفنا وراءنا 35 منزلاً مدمراً، و60-80 قتيلاً" منهم عدد لا يستهان به من الأطفال. والله أعلم.