لقد شاع الاعتقاد بفشل السياسات الخارجية للرئيس بوش الذي احتكر لنفسه سلطة إصدار القرارات، بسبب طيش هرولته نحو غزو العراق. ويعتقد منتقدوه أن ذلك الغزو لم يسفر عن شيء سوى توسيع النفوذ الإيراني داخل العراق وفي المنطقة إجمالاً، إلى جانب إلهاء الولايات المتحدة عن ملاحقة قادة تنظيم "القاعدة"، الذين قويت شوكتهم الآن في حدود كل من باكستان وأفغانستان، إضافة إلى تشتيته لجهود الغرب وصرفه لاهتمامه عن التصدي للتدهور المستمر في علاقاته مع روسيا. وغير هذا، فإن هناك الكثير مما يمكن إضافته إلى هذه الحجج والانتقادات. إلا أنه يصعب على المرء تكوين فهم كامل لسجل أداء الرئيس بوش، دون فهم الجانب الآخر من شخصيته: عجزه المزمن عن اتخاذ أية قرارات صائبة، مصحوباً بعجزه عن تنفيذ القرارات التي تم اتخاذها أصلاً. وإن ألقيت نظرة سريعة واحدة إلى كل القضايا الرئيسية: من المأزق الشرق أوسطي، مروراً بأزمة كوريا الشمالية النووية، وصولاً إلى التجاذب حول وزارة الأمن الوطني، فإنك واجدٌ لا محالة، دليلاً قاطعاً على عجزه وتردده في اتخاذ أي من القرارات القيادية، أو حتى عن حمل فريقه على اتباع أوامره وتنفيذها بامانة.. وتلك هي آفته الحقيقية. ويا لصعوبة وضع هذه الصورة القاتمة إلى جانب صورته الثانية التي يقدم فيها نفسه على أنه إداري تنفيذي قوي الشكيمة، وصاحب عزم لا تلين له قناة، ووضوح رؤية لا تغيب عنها الأهداف. وكما ورد في مذكرات سكرتيره الصحفي السابق "سكوت ماكليلان" التي حملت عنوان "ماذا حدث"؟ فقد وصفه المؤلف بأنه طالما استهوته صورة ذلك الـ"قائد الشديد الانضباط، الذي ينصب اهتمامه كله على اتخاذ القرارات الصعبة، وتحري الحكمة والإرادة والعزم على تنفيذها... شأنه في ذلك شأن مديري الشركات التنفيذيين الناجحين". وربما سعى بوش إلى التشبُّه في هذه المزاعم التي ينسبها إلى نفسه بنهج والده الرئيس الأسبق، أو مستشاره للأمن القومي برينت سكوكروفت، إضافة إلى حرصه على تمييز نفسه عن سلفه بيل كلينتون الذي يُنعت بالتراخي الإداري. غير أن إفادات كثير من موظفي إدارة بوش السابقين، تشير إلى أن وهْم "المدير التنفيذي" الذي يحاول بوش أن يتشبث به، له صلة قوية بهوسه بالانضباط، أكثر من كونه تعبيراً عن عزم إداري فعلي. نشير هنا إلى أنه سبق لبوش أن منع وزير خارجيته السابق كولن باول من حضور أحد اجتماعات مجلس الوزراء، بسبب تأخره بضع دقائق فحسب عن موعد انعقاد الاجتماع! وهذه هي الصورة التي يرسمها عنه بعض موظفيه ومستشاريه السابقين، وليس نقاده أو خصومه وحدهم. فبعد أن اطلع "بنج ويست" على مذكرات "دوجلاس فيث"، مساعد وزير الدفاع سابقاً في إدارة بوش وأحد أبرز قادة "المحافظين الجدد"، الصادرة تحت عنوان "الحرب والقرار"، نشر الكاتب مقالاً في العدد الأخير من "ناشيونال ريفيو" سخر فيه من تلك المذكرات، قائلاً إنه من الأحرى تسميتها بـ"الحرب واللاقرار". وربما كان هذا الوصف الأخير هو النعت الأكثر ملاءمة لولاية بوش كلها. ولكن لا يزال السؤال الرئيسي عالقاً، على رغم أنوفنا جميعاً: لمَ يتذبذب بوش إلى هذه الدرجة المزمنة، ويعجز عن اتخاذ القرارات وتنفيذها؟ فيما يلي نقدم بعض الإجابات التي تدل على مظاهر هذا العجز. في مقدمتها: تركه الخلافات حتى تكبر وتتفاقم بين أفراد طاقمه. فعلى رغم كل ما ينسبه بوش إلى نفسه من قدرات قيادية وعزم رئاسي، نراه وقد عجز عملياً عن بلورة أية سياسات قيادية يعول عليها. وهذا ما فتح الباب واسعاً أمام تفشي الخلافات، بل الخصومات الداخلية بين أفراد طاقمه. وليس من مثال أدل على هذا من أزمة إيران. فعلى امتداد ما يزيد على السبع سنوات من عمر إدارته، لم يعد واضحاً بعد ما إذا كان بوش يدعو إلى سياسة تغيير النظام في طهران، أم أنه يفضل طريق مساعي الوقف السلمي التفاوضي لبرامجها النووية. وقد شكل العجز عن اتخاذ أي من الخيارين المذكورين، ضمانة كافية لتكريس عجز إدارته في التصدي للأزمة الإيرانية برمتها، بشكل جوهري. والمعلوم أن هذين الخيارين لا يجتمعان معاً. والسبب أنه ليس مرجحاً لطهران أن تبدي أي استعداد للتعاون السلمي معنا من أجل وقف برامجها، طالما أنها تدرك أننا ننوي الإطاحة بنظامها القائم. وعلى رغم الصفقة التي أبرمتها الإدارة مؤخراً مع كوريا الشمالية، إلا أنه كان ممكناً الحد من الخسائر التي قامت عليها هذه الصفقة -بما في ذلك تمكن بيونج يانج من تطوير عدد لا يزال مجهولاً من القنابل النووية- فيما لو سارعت إلى المضي في هذا الطريق منذ عام 2000، وبدأت فيه من حيث انتهت إدارة بيل كلينتون. كما تظهر أعراض متلازمة الضعف القيادي هذه فيما يتصل بالتسوية السلمية للنزاع الإسرائيلي/ الفلسطيني. فقد ورثت إدارة بوش من الرئيس الأسبق بيل كلينتون تركة اتفاقية كامب ديفيد. إلا أنها أعلنت منذ عام 2000 عدم استعدادها لإهدار أي وقت أو رأسمال سياسي في حل النزاع. واستمر ذلك الموقف على حاله على رغم تظاهرها في مرحلة ما بالاهتمام بحل النزاع عبر دعوة بوش الشهيرة إلى الحل السلمي، القائم على الإعلان عن دولتين متجاورتين ومتعايشتين، حسبما جرى تصوره في "خريطة الطريق". ثم حدث تغير مفاجئ في هذا الموقف في عام 2007، بدافع حرص وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس على إحراز تقدم في حل النزاع، وإبرام صفقة متجاوزة للمأزق العراقي، وقادرة على تبديد شكوك نائب الرئيس ديك تشيني ونائب مستشار الأمن القومي إليوت أبرامز في عملية السلام من الأساس. غير أن هذه المبادرات تنسب إلى وزيرة الخارجية، بينما واصل بوش الجلوس على مقاعد الفرجة في ما يجري أمامه! إلى ذلك يمتد عجز بوش عن الفعل إلى عدة قضايا أخرى نذكر منها إخفاقه الواضح في تنفيذ توصيات لجنة التحقيق في هجمات 11 سبتمبر، وضعف استجابة إدارته لكارثة مدينة نيوأورليانز. ولك أن تقيس على ذلك سلسلة الإخفاقات الأخرى، بما فيها تفكيك الجيش العراقي السابق، ثم إعادة بنائه... إلى آخره... والقائمة طويلة. ــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"