وددتُ أن تكون الندوة الفكرية المرافقة لمعرض الكتاب الدولي في دمشق هذا العام، بحثاً عن التواصل والتكامل الثقافي بين مشرق الأمة العربية ومغربها، وقد عُقدت عدة ندوات في الوطن العربي لدراسة الموضوع ذاته، ولتصعيد الاهتمام بالتكامل الثقافي الذي يحققه هذا الحوار الذي ينبغي أن يستمر، فلابد لثقافتنا العربية من أن تخوض حواراً داخلياً عميقاً يواكب دعوتها إلى الحوار مع الثقافات العالمية الأخرى. ولابد من التوقف عند شيوع نظريات تقدم نفسها على أنها الحداثة المنشودة، تدعو إلى القطيعة أو تؤكد وجودها عبر دراسات فكرية بنيوية أو مادية أو تاريخية تريد أن تؤسس الثقافة العربية المعاصرة على مفهوم القطيعة وليس على أساس التواصل والاستمرار والاستقرار. وبعضها يرى أن تطور العلم يخضع لمتغيرات كبرى تجُبّ كلُّ مرحلة فيها ما كان قبلها من مراحل الارتقاء. وهذا كلام مرفوض جملة وتفصيلاً على صعيد الفكر والعلم، لأن حقائق العقل الواقعة في دائرة الثوابت راسخة رسوخ المنطق الإنساني ورسوخ الغرائز والدوافع والنوازع، مع الاعتراف بتغير أشكال التعبير عنها عبر تحديث مستمر. وكذلك العلم هو سلسلة معرفية متراكمة تتناقلها الحضارات، فكيف إذا كان التناقل في داخل الحضارة الواحدة؟ ويبدو أن بعض المفكرين المشارقة والمغاربة قد أسهموا بقصد، أو بغير قصد، في تكوين رؤية تبحث عن الفوارق أكثر مما تبحث عن التواصل والتماهي والتشابه، فهناك من تحدثوا عن اختلاف في الزمان والمكان المغربيين عن مثيليهما المشرقيين. وهناك من اشتغل بالبحث عن الأسبقية والريادة، وهو أمر لابد من أن يصطنع حساسيات لا تحتاج إليها ثقافتنا الراهنة التي تنفتح أمامها آفاق ثقافات الأرض، وطبيعي أن يكون انفتاحها على جبهاتها الداخلية أرحب وأوسع. ولقد كان هدف ندوتنا أن يتحاور المثقفون من المشرق والمغرب لتوسيع الرؤية المشتركة لمفهوم الوحدة عبر التعدد والتنوع، وهذا المفهوم لا ينكر الخصوصيات الثقافية التاريخية، وهذه الخصوصيات لم تشكل عبر التاريخ كله أية قطيعة مدَّعاة. ولئن كنا نريد البحث عن ذروة هذه الحضارة الواحدة فإننا نجدها في الإسلام الذي يشكل البنية الحضارية المشتركة، ورغم كثير من التباين في التجربة التاريخية، وقد حفل تاريخنا الثقافي بمساجلات طريفة حول التبادل المعرفي، فحين جاءت إلى المشرق كتب أبي علي القالي وابن عبد ربه وسواهما من صناع فن الخبر، قال المشرق العربي "بضاعتنا ردت إلينا". وكان أهل المشرق قد حملوا معهم إلى المغرب العربي كل معارفهم يوم حققوا فتوحاتهم، ولكن اختلاطهم بثقافات جديدة في المغرب أتاح لهم تميزاً بات غنى واضحاً في الثقافة العربية. ويميل بعض المثقفين إلى اختراع فوارق، فهناك من يظن أن المدارس الفكرية التي انتظمت فيها فلسفات المغرب العربي كانت مختلفة تماماً عن فلسفات أهل المشرق، ويحيل بعضهم الفكر المشرقي إلى الشيخ الرئيس ابن سينا وإلى الفارابي وإلى فقه الغزالي وتأثر فلسفة المشرق بالفلسفة الأفلاطونية، بينما يرى أن المغرب العربي يحقق فلسفة ابن رشد وابن طفيل وفقه ابن حزم. وهذه الرؤية تغفل عن كون المدرستين تنهلان من الفكر العربي الإسلامي ذاته. فإذا كان ابن سينا والفارابي الملقب بـ"أرسطو العرب" قد درسا فلسفة اليونان وتأثرا بها وقدما نقداً لها، وأرادا الإفادة من حكمتها في دعم الفلسفة الإسلامية، فإن ابن رشد فعل الأمر ذاته حين شرح أرسطو. ولئن كان قد نزع إلى الفصل بين الرؤية التأملية الوضعية وبين الرؤية الدينية الوقفية فإن المعتزلة و"إخوان الصفا" قد أسسوا لذلك، ولا أعني بذلك مفهوم الريادة أو السبق، وإنما أعني وحدة المصدر والمنهل، لتأكيد وحدة الثقافة مع تنوعها الثري. وفي العصر الحديث تألقت في المغرب العربي دراسات فكرية حول تكوين العقل ودراسة التراث، ولكن كثيراً منها كما في المشرق نظر إلى العقل العربي وإلى التراث بعيون المستشرقين الذين كانوا أساتذة للباحثين الذين درسوا في الغرب، وتأثروا بنظريات أوروبية لا تصلح جملة لتشخيص خصوصية الثقافة العربية. وما زلت أرى ضرورة أن يجد الباحثون منهجاً للبحث مستخرجاً من صلب الثقافة العربية. وأزعم أن المدارس البنيوية والمادية والتاريخانية التي هي نتاج فلسفات غربية لم تستطع أن تصل إلى المضامين العميقة للثقافة العربية أو أن تلتقط الوجدان فيها. ولئن كان فلاسفة الماضي مثل الفارابي وابن رشد قد أفادوا من نتاج فكر اليونان، فإن رؤيتهم الموسوعية التي يفتقدها الباحثون المتخصصون اليوم أنقذتهم من الوقوع في الرؤية الأحادية، ومن فخ التنافر بين الميزان والموزون، وأنا لا أطلق أحكاماً اعتقادية وإنما أثير أفكاراً هي بالضرورة قابلة للنقد والنقض، وهذا ما حرصنا عليه في الملتقى ليس لهدف الوصول إلى الفصل بين الصحيح وغير الصحيح، وإنما بهدف الوصول إلى مزيد من التنوع الحيوي، عبر وفرة من وجهات النظر. كما حرصنا على أن نتأمل تجربة المغرب في مثاقفته مع الغرب، فهو الأقرب إليه في الجغرافيا وفي التاريخ، وقد حقق تمسكاً بثوابته على الرغم من تعرضه لاستعمار طويل ولاسيما في الجزائر. واليوم تحقق الجاليات العربية والمغاربية خاصة في أوروبا حضوراً سياسياً وثقافياً متميزاً (فقد وصل كثير من العرب المهاجرين إلى مواقع سياسية مهمة في أوروبا)، وباتت تجربة الاغتراب بين أهل المشرق وأهل المغرب جديرة بالحوار للإفادة من إيجابياتها، ولتأمُّل ما فيها من سلبيات، ولدراسة تفاعل الأمة مع هذه الحالة المستجدة، ولاسيما بعد أن صارت موضع حوار سياسي داخل أوروبا. كما وجدنا من الضروري أن يتم تأمل نقدي للاستجابة الثقافية بين كل من المشرق والمغرب لتحديات القرن الحادي والعشرين، بهدف توحيد المواقف التي تعزز مفهوم الأمة الواحدة. وقد أشار أحد الباحثين في الندوة إلى أن أهل المغرب لم يشغلهم موضوع الإثنيات أو الطائفية التي تقلق أهل المشرق، ربما لاختلاف طبيعة النسيج الاجتماعي بين الجهتين، مع أن المغرب العربي في تاريخه شهد كل ما يعرفه المشرق اليوم من تنوع جعل ابن حزم يؤلف كتاباً عن "الملل والنحل". وأجد من الضروري أن تطلع الأجيال الجديدة في المشرق والمغرب على عمق التواصل بين صفحتي كتاب الثقافة العربية لترى الجذور المعرفية التي توحِّد الرؤية العامة إلى درجة التمازج، فلم يكن المؤسسون الكبار لثقافتنا يتوجهون إلى ثقافة مشرقية أو مغاربية، فابن عربي وابن خلدون وابن البيطار وأمثالهم كثر حتى عصر الأمير عبدالقادر الجزائري وما بعده، عاشوا بين مشرق الأمة ومغربها، ليؤسسوا ثقافة عربية إسلامية واحدة في مصادرها الكبرى، متنوعة في إبداعاتها. ولقد عانت الثقافة العربية من فصام غير مسوَّغ في القرن العشرين. وأذكر أنني في الثمانينيات من القرن الماضي شعرت بقسوة جهلنا في المشرق بما يبدع أهل المغرب ولاسيما في الميدان الفكري، فقمت بجولة واسعة في دول المغرب العربي (قبل ظهور الفضائيات) لإجراء حوارات تلفزيونية كان هدفي منها تعريف أهل المشرق بإبداع أهل المغرب، وقدمت عشرات الحلقات التلفزيونية التي عرضت في القنوات العربية التلفزيونية ولقيت نجاحاً في مضامينها. وأعتقد أن ظهور الفضائيات في مطلع التسعينيات قد حقق كثيراً من التواصل، ولكنه في كثير من الأحيان تواصل شكلي تأخذ دراما التلفزيون النصيب الأوفر فيه، ولا يصل بعمق إلى المعرفة الفكرية التي لا يحققها إلا الكتاب، وما يزال الكتاب ضعيف الحضور والانتشار. وأحسب أن إفادتنا من معارض الكتاب في إقامة ملتقيات فكرية تقود إلى الهدف العريض وهو تعميق الحوار داخل الثقافة الواحدة.