خلال حملته الانتخابية التاريخية طمأن أوباما الناخبين بأن اللغة التي يستخدمها ليست مجرد خطابات وبلاغة بدون مضمون، بل هي كلمات لها معنى ودلالة؛ وبعد مرور ستة أسابيع على دخوله البيت الأبيض يبدو أن العبارة الأهم بالنسبة لأوباما والتي رددها في جميع خطبه هي "المسؤولية". فالرئيس الجديد نادراً ما ألقى خطاباً، أو عين مستشاراً جديداً، أو ألقى الضوء على إحدى سياساته دون استدعاء كلمات "مسؤول"، أو "مسؤولية"، حيث استخدمها ثلاث مرات في خطابه الافتتاحي، ورددها 11 مرة في كلمته الأولى أمام جلسة الكونجرس المشتركة، ثم قالها تسع مرات عندما أعلن خططه لسحب القوات الأميركية من العراق أمام حشد من عناصر مشاة البحرية في كارولاينا الشمالية. لكن ما الذي يعنيه أوباما عندما يردد كلمة "المسؤولية"؟ فهو استعملها في بعض الأحيان لتسجيل قطيعة مع سلفه، وكذلك على سبيل المثال حمل مقترح الموازنة الفيدرالية الذي أصدرته الإدارة خلال الشهر الماضي عنواناً دالا: "عصر جديد من المسؤولية"، وهو ما يعني ضمنياً أن هنالك انفصالا واضحاً عن ماض أكثر عبثاً. ويقرن أوباما أيضاً الكلمة بسياسات مثيرة للجدل سواء كانت تتعلق بالعراق، أو تتصل بالاقتصاد لطمأنة الرأي العام بأن تحركاته تتسم بالتعقل والحصافة، وقد عبّر عن ذلك أمام جلسة الكونجرس المشتركة في 24 فبراير بقوله: "إن مهمتنا هي الحكم بروح من المسؤولية". وفي أحيان أخرى نجد أن أوباما يشدد على المسؤولية الفردية. ففي خطابه بمناسبة "يوم الأب" خلال العام الماضي اتهم الرجال الأميركيين من أصول أفريقية "بالتخلي عن مسؤولياتهم" تجاه أسرهم. والحقيقة أن الأمر برمته يبدو جيداً، فمن ذا الذي يكره رئيساً يتحلى بالمسؤولية ويجعل منها نبراساً له في العمل والسياسة، لاسيما في وقت الأزمة الاقتصادية والحرب؟ لكن مع مرور الوقت يبرز خطر حقيقي من أن تعاني الكلمة والرئيس الذي يستخدمها من الإفراط في ترديدها، إلى حدود الابتذال الإعلامي، وخاصة إذا انتقل الاستعمال من التطمين كما يتوخى ذلك الرئيس إلى إلقاء المحاضرات والعظات على مسامع الأميركيين، لتنتقل بذلك من تهدئة الخواطر إلى التقريع والانتقاد، ما قد يحول هذا الرئيس الشاب إلى شخصية الأب العارف بكل شيء، والذي يأبى تسليم مفاتيح السيارة إلى أبنائه قبل أن يُسمعهم خطابه الطويل والممل عن أهمية التحلي بالمسؤولية. وبحسب العالم اللغوي، "جورج لاكوف"، تحمل كلمة "مسؤولية" في طياتها معاني ملتبسة، وهي بذلك حمَّالة أوجه تجسد قيماً ليبرالية، وأخرى محافظة، ويضيف "لاكوف" إن الرئيس الجديد يحاول مخاطبة "الجمهوريين" و"الديمقراطيين" باستخدام كلمة يراها كلا الطرفين ملكاً له. وهكذا أشار أوباما وهو يصف خطته للإسكان إلى أنها موجهة فقط إلى "أصحاب البيوت المسؤولين"، كما أن خطة الإنعاش الاقتصادي التي طرحها "تكافئ المسؤولية" بتوجيه العوائد الضريبية إلى الطبقة الوسطى، وفي المستقبل -يقول أوباما- سيكون على الشركات في أميركا قبول "مسؤولياتها الخاصة" إزاء العمال والبلد. وعندما يتحدث عن الانسحاب من العراق، أو "السحب المسؤول لألويتنا المقاتلة" كما يصفه فهو يستخدم كلمة "مسؤولية" لتطمين الرأي العام بأن سياسته ليست ضرباً من العناد، بل تعكس رؤية واضحة ومدروسة، ويوضح أوباما تلك السياسة قائلا: "بالنسبة للمنتقدين الذين يسألون: هل ستنسحبون من العراق مهما كانت الظروف؟ أقول إن الانسحاب سيأتي بطريقة تضمن الحماية لقواتنا وتدافع عن مصالحنا". بيد أن هذا الفهم الخاص للمسؤولية الذي يصر عليه أوباما هو ما يثير حنق المحافظين الذين يستشفون من تصرفاته وترديده الدائم لكلمة "المسؤولية" دوافع أخرى غير ظاهرة، فهم يعتبرونها خفة يد بلاغية ومهارة خطابية الهدف منها إخفاء سياسته الليبرالية بجعلها تبدو معتدلة ومسؤولة. وعن هذا الأمر يقول "بيتر فيرارا"، الباحث في معهد "الابتكار السياسي" إن أوباما "يحاول صرف انتباهنا عن أيديولوجيته، فهو عندما يقوم بعمل ينم عن أيديولوجية معينة يحتمي وراء كلمة "مسؤولية" ليبدو العمل وكأنه بعيد عن الأيديولوجيا"، ويضيف "فيرارا" أن المحافظين يستاؤون جداً عندما يسمعون أوباما يتحدث عن "المسؤولية المالية" حتى وهو يدافع عن الإنفاق الحكومي الذي يرون فيه كل شيء عدا المسؤولية. لكن أوباما لم يكن الوحيد من بين الرؤساء الذين تبنوا كلمة واتخذوها شعاراً فقد كانت للرئيس بوش عبارته المفضلة أيضاً، حيث استعمل في خطاب التنصيب كلمة "حرية" 49 مرة خلال عشرين دقيقة، بحسب "لاكوف" الذي ألف كتاباً في عام 2006 حول معاني الكلمة، وعلى غرار أوباما استخدم بوش كلمته الأثيرة لوصف مجموعة من السياسات المتنوعة، التي لا رابط بينها بالضرورة. ففي خطابات بوش أمام الجمهور لم تأتِ الحرب في العراق إلا من أجل حرية الشعب العراقي، كما جاءت أيضاً لتحقيق حرية أميركا من خطر الإرهاب المحيق بها، وقد برع مؤيدو بوش في وصم كل من يعارض سياساته بالمناهض للحرية، وهكذا تحولت جهود خفض الضرائب إلى حرية كسب المال وإنفاقه بالطريقة التي يريدها الناس، وأصبح رفع القيود والضوابط ترسيخاً للحرية ضد التدخل الحكومي في تفاصيل الحياة اليومية. وهذا كله عبر عنه بوش في خطاب التنصيب لعام 2005 قائلا: "هناك فقط قوة تاريخية واحدة تستطيع كسر سيطرة الحقد، وكشف ادعاءات المستبدين والطغاة، وقادرة على مكافأة آمال الشرفاء والمتسامحين، وتلك القوة ليست سوى الحرية البشرية". وعلى غرار "المسؤولية" ينطوي مفهوم "الحرية" على معانٍ كثيرة ويمكن استيعابه لوصف حالات مختلفة وأهداف متعددة، وقد لجأ إليه بوش على مدار ولايته الرئاسية لتعزيز سياساته والدفاع عنها. لكن قد يجد أوباما نفسه أمام حقيقة اكتشفها قبله بوش عندما أتت عبارته المفضلة بنتائج عكسية بعدما تغير الواقع على الأرض بسبب فشل سياسته في العراق وأفغانستان. وبوصول بوش إلى نهاية فترته الرئاسية أصبحت كلمة "حرية" مصدراً للسخرية والتندر أكثر منها محط إعجاب وثناء لأنها باتت تتعارض مع الصور التي ينقلها الإعلام لمن يُفترض أن بوش حررهم حول العالم، وهو ما قد يسقط فيه أوباما نفسه إذا تمادي في التركيز على ترداد عبارة "المسؤولية" على حساب النتائج. مايكل شير كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"