غادرت صوب أفغانستان أول قوة أميركية قوامها 17 ألف جندي، ضمن استراتيجية زيادة عدد القوات التي تقرر تطبيقها هناك. ولكن السؤال: ما المهمة التي سوف تضطلع بها هذه القوة الإضافية؟ في الإجابة عنه، اعترف وزير الدفاع الأميركي نفسه بأن هذه القوة توجهت نحو أفغانستان دون أن توضع لها استراتيجية محددة لمهامها هناك. فقد سبق أن كلفت بعثات عسكرية مختلفة بدحر التمرد "الطالباني"، إلا أنها عجزت عن إنجاز مهماتها. وبما أن تلك هي الحقيقة، فكيف لبعثة صغيرة مؤلفة من 17 ألف جندي فحسب، أن تنجز أياً من هذه المهام، دعك عن تكليفها بإنجازها جميعاً؟ وفيما يبدو فقد تصاعد هذا الجهد اعتقاداً بإمكانية تكرار النجاح الذي حققته استراتيجية زيادة عدد القوات في العراق، هناك في أفغانستان. ولكن الحقيقة هي خلاف ذلك تماماً. أقول إن استنساخ التجربة العراقية ليس ممكناً، استناداً إلى خبرتي العملية. فقد عملت قائداً عاماً لجميع قوات التحالف الدولي لمدة عام كامل. ثم توليت لاحقاً منصب نائب مدير مكتب إدارة إعمار العراق. وفيما أعلمه جيداً أن الظروف التي سمحت بإحراز قدر معقول من النجاح في العراق لا تتوافر هنا في أفغانستان. ولا أقصد بهذا القول باستحالة تحقيق النجاح، إنما أعني مقدار صعوبته. ولن يكون النجاح ممكناً إلا بتبني استراتيجية تفصل على حقائق الواقع المحلي لأفغانستان. وعلى رغم تحذير بعض المسؤولين العسكريين من أن ما تم تطبيقه بشكل ناجح ومثمر في العراق، ليس بالضرورة أن يحقق النتائج الإيجابية نفسها في أفغانستان، إلا أن الاستراتيجية التي تتبعها واشنطن إزاء الأخيرة يبدو أنها تعتمد على مجرد التفاؤل والأمل، أكثر من اعتمادها على التقديرات الموضوعية لحقائق الواقع الأفغاني. وربما كان في تدقيق النظر إلى استراتيجية زيادة عدد القوات التي تم تطبيقها في العراق، مما يتيح التعامل بموضوعية مع الواقع الأفغاني. فلم يزد عدد الجنود الإضافيين الذين تم إرسالهم إلى العراق في إطار استراتيجية زيادة القوات عن 30 ألفاً فحسب، إلا أنهم ذهبوا إلى العراق وفي صحبتهم تكتيك عملياتي جديد تماماً. فبدلاً من التحرك إلى ساحة العمليات من القواعد العسكرية، أمر الجنود بالتواجد بين المواطنين. والمهمة؟ حماية المدنيين العراقيين ضد أعمال العنف التي تستهدف حياتهم. وبموجب تلك الاستراتيجية أنشئت محطات أمنية صغيرة في الأحياء والمناطق السكنية، مكنت الجنود من سرعة الاستجابة لأي استنجاد من جانب المواطنين، كما ساعدت على رفع كفاءتهم، بقدر ما عززت الثقة والشعور بالاطمئنان بين المواطنين. وفي الوقت نفسه، ساهمت محطات التفتيش والحواجز الأمنية المنصوبة، في الحد من حركة المتمردين الإرهابيين. وضمن التكتيكات الجديدة، سمح بإجراء "تطهير" سلمي إيجابي لضمان قدر أكبر من أمن وسلامة المدنيين. وتمثل هذا الإجراء في ترحيل بعض الطوائف المتشاحنة والمتجاورة مع بعضها البعض إلى أحياء ومناطق أخرى، بهدف تفادي الاحتكاك بين العناصر المختلطة المتجاورة، كأن يعزل السُنة ويتم ترحيلهم إلى حي سكني آخر لا تغلب عليه الطائفة الشيعية مثلاً. وبالمقارنة مع ما حققته هذه الاستراتيجية من نجاح كبير في العراق، يجب القول إن فرص نجاحها في أفغانستان تبدو ضئيلة جداً. والسبب أن العراق يبدو أشبه بولاية نيويورك، حيث يسود سكان الحضر وتغلب حياة المدينة على حياة الريف. ولبسط الأمن في العراق كله، فما عليك إلا أن تبسطه في المدن والمراكز الحضرية. وعلى عكس العراق تماماً، تبدو أفغانستان أكثر شبهاً بولاية ألاسكا. فهناك يختلط سكان الريف بسكان المدن، وتوجد مدن وعواصم نائية جداً عن المناطق الريفية الواقعة بعيداً وسط السلاسل الجبلية الممتدة. وبالمقارنة يبلغ سكان العاصمة بغداد وحدها نحو 7 ملايين نسمة، بما يعادل ربع مجموع سكان العراق. أما في أفغانستان، فبالكاد تسكن المدن الأفغانية الرئيسية الخمس -بما فيها العاصمة كابول- نسبة تعادل عشراً واحداً من مجموع السكان. ولكون بغداد المركز السياسي الاقتصادي الاجتماعي للعراق كله، فإن استتباب الأمن فيها، تكون له انعكاسات مماثلة في بقية المناطق والمدن العراقية كلها. أما في أفغانستان فلا توجد مدينة كهذه. كما أن التواجد بين المواطنين في أفغانستان يتطلب ترتيبات مختلفة جداً عما حدث في العراق. فهو يتطلب تواجد أعداد أصغر من الجنود الأميركيين وانتشارهم في عدد لا يحصى من القرى. وفي هذه الحالة، لن يكون في وسعهم مساندة بعضهم البعض في حالات الطوارئ وتعرضهم للهجمات من قبل متمردي "طالبان". وطالما أن نسبة 20 في المئة فحسب من الطرق الأفغانية معبدة، فإن ذلك يعني بطء حركة قوات التدخل السريع، خاصة في المناطق الجبلية وفي ظروف الطقس السيئة. وإن كان الهدف النهائي لهذه الترتيبات هو حماية المواطنين ضد هجمات "طالبان" وصد التقدم الذي أحرزته حركة "طالبان" مؤخراً، فربما كانت الاستراتيجية الأفضل لتحقيقه هي نشر شبكة محطات أمنية شرطية محلية صغيرة في المناطق التي حققت فيها "طالبان" نجاحاً ملحوظاً في عملياتها أكثر من غيرها، لا سيما في البلدات الصغيرة والقرى. غير أن الألوية العسكرية التي تمثل أساس استراتيجية زيادة عدد القوات التي بدأ تطبيقها عملياً في أفغانستان، تظل محدودة العدد، إضافة إلى كونها لم تدرب وتنظم وتجهز للقيام بمثل هذه المهام الشرطية الحاسمة. وهذا ما يتطلب إعادة النظر في مهمة الجنود الإضافيين في أفغانستان، مع تسليط الاهتمام على بناء قدرات أمنية شرطية محلية ذات كفاءة. وبقدر الصعوبة المحيطة بتحسين البيئة الأمنية في أفغانستان، فإن التحدي الرئيسي الذي تواجهه استراتيجية زيادة عدد القوات -مثلما هو التحدي الرئيسي الذي واجه الاستراتيجية نفسها في العراق- هو ما إذا كانت تسفر في نهاية الأمر عن إحراز تقدم سياسي اجتماعي اقتصادي في أفغانستان. بالمقارنة، فقد صحب زيادة عدد القوات في العراق، تحسن سياسي مواز له هدفان رئيسيان: إصلاح نظام الحكم على المستوى الوطني العام، وتحسين مستوى كفاءة الحكم المحلي في شتى المحافظات العراقية. بيد أن معايير كهذه لم توضع شرطاً مسبقاً لاستراتيجية زيادة عدد القوات في أفغانستان. وبتحريرها صكاً نقدياً مفتوحاً للرئيس الأفغاني حامد قرضاي، إنما تقوض واشنطن أي حوافز تدفع الحكومة المركزية على إجراء الإصلاحات التي طالما تزداد الحاجة إليها في جهازي الحكم المركزي والإقليمي على حد سواء، إن كان لكابول وأجهزة حكمها المحلية أن تتمكن من كسب عقول وقلوب الأفغان. أما على صعيد تحسين البيئة الأمنية في أفغانستان، فمن الصعب تحقيق هذا الهدف -حتى وإن جاء التصعيد العسكري مصحوباً بإصلاحات سياسية كبيرة ومغرية- بدون التصدي المباشر للاضطرابات المتزايدة في مناطق قبائل البشتون الممتدة عبر الخط الحدودي المشترك مع باكستان. وإن كانت الولايات المتحدة تواجه مصاعب فعلية في خفر حدودها المشتركة مع جارتها المكسيك، فهل يتوقع لها أن تحقق نجاحاً في خفر الخط الحدودي الفاصل بين أفغانستان وباكستان؟ وفيما يبدو، فإن الفرص الوحيدة لإحراز النجاح هي تنظيم العمليات العسكرية لضرب شبكات الإرهابيين وليس المدنيين، إلى جانب توفير القروض والمنح الصغيرة التي تستهدف تلبية الحاجة المباشرة للأسواق والاستثمارات المحلية. وقد خطا الرئيس أوباما خطوة صحيحة بإبداء دعمه لجهود التفاوض مع العناصر المعتدلة في حركة "طالبان". ولكن تزداد الحاجة للتعاون الوثيق بين واشنطن وقيادة حلف "الناتو" وحكومتي أفغانستان وباكستان. وعلى واشنطن أن تسعى لاستقطاب دعم دولي إقليمي أوسع لجهودها المبذولة في أفغانستان. إريك تي. أولسون ــــــــــــــــــــــــــــ قائد عملياتي سابق لقوات التحالف الدولي في أفغانستان 2004-2005 ومشرف رئيسي حالياً على الألوية العسكرية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"