أُتيح لنا في الآونة الأخيرة أن نرى بشكل جلي ومؤلم في آن، تأثير المناخ السائد في واشنطن على قدرة وكالات استخبارات هذه الأمة على الدفاع عنا. فهذا المناخ هو الذي جعل رجلاً مثل "فِلْ مد" يرى أنه من الأفضل له - بدلاً من أن يمر عبر ما كان يعد بأن يكون عملية تثبيت علنية مضنية ومحرجة في آن - أن يسحب أسمه من قائمة الأشخاص الذين سيتم النظر في أمر اختيار أحدهم لشغل منصب وكيل وزارة الأمن الداخلي لشؤون الاستخبارات والتحليل. و"فِلْ" شخص أرى أنه لو كان قد تم تثبيته بالفعل، لكان قد كرر إنجاز - "تشارلي آلين"، الرجل الأسطوري، وخبير "السي. آي. إيه" العتيد الذي شغل هذه الوظيفة من قبله بما تنطوي عليه من أهمية باعتباره تضم بعض من أخطر أنواع المهام في مجتمع الاستخبارات الأميركي، وتؤدي دوراً كحلقة وصل وتنسيق رئيسية بين القدرات الوطنية، واحتياجات دولتنا، والمدافعين المحليين، والمستجيبين الأوائل. و"فِلْ" رجل استخبارات من الطراز الأول، ومحلل محترف في الـ"سي. آي. إيه"، ويتمتع بخبرة واسعة في مهام مواجهة الإرهاب. وعندما كنت اشغل منصب نائب مدير الاستخبارات الوطنية عام 2005، كنت أنظر لـ"فِلْ" بتقدير كبير، لدرجة دفعتني للضغط عليه كي يترك وظيفته التي كان يشغلها ويرتاح للعمل فيها في"السي. آي. إيه" للالتحاق بوظيفة جديدة صعبة هي وظيفة مدير فرع الأمن القومي بمكتب التحقيقات الفيدرالي (إف. بي. آي) التي كانت قد أُسست حديثاً في ذلك الوقت. كانت مهمة "فِلْ" هي إجراء عملية توسيع جذرية في المكتب، وتغيير طبيعة التحليلات التي يجريها، بحيث تنتقل من مجرد تحليلات تقوم على قواعد الطب الشرعي، وتركز على عمليات فرض القانون أساساً، إلى وظيفة استخبارية حقيقية، أي تقوم على التنبؤ، وتخريب مخططات العدو. " فِلْ" قبل التحدي، ونجح في تحقيق المراد منه نجاحاً باهراً، وتمكن من اكتساب احترام جميع زملائه، ولم يأل جهداً في تصعيد العديد من العاملين في المكتب إلى المجرى الرئيسي في مجتمع الاستخبارات، مما أهله، ضمن عوامل أخرى، للاختيار ضمن قائمة المرشحين لشغل الوظيفة المشار إليها في "وزارة الأمن الداخلي". ولكن بدلاً من التعرض لتلك التجربة المريرة التي نطلق عليها نحن عملية "التثبيت في المنصب"، آثر "فِلْ" الهروب مما كان يخشى -على حد وصفه - أن يتحول إلى "سيرك"، خصوصاً بعد أن امتلأ فضاء المدونات بتعليقات حول مدى ملائمته للوظيفة من عدمه. وهنا قد يخطر على الذهن سؤال هو: ما الذنب الذي ارتكبه الرجل؟ الذنب هو أنه كان يشغل منصب نائب مدير مركز "السي. آي. إيه" لمكافحة الإرهاب، ومحلله الرئيسي، في ذروة نشاط المركز ضد تنظيم "القاعدة"، وتحديداً خلال السنوات الخمس الأولى التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي شعرت الوكالة وقتها أنه ليس أمامها سوى استخدام جميع الأدوات المتاحة لها، من أجل معرفة المزيد حول ذلك التنظيم الإرهابي وإحباط عملياته المتوقعة. ولم يكن انخراط "فِلْ" الشخصي في التكتيكات الأكثر إثارة للجدل، يزيد عن من مجرد "انخراط متواضع"، وإن كان ذلك لا يحول دون القول بأنه كان يقوم عن وعي بتكليف كافة مصادر المعلومات الممكنة بالمهام، ويقوم في الوقت نفسه بوصل النقاط المتفرقة بذلك القدر من الأمانة التي كان الجميع يعرفونها عنه. وعندما قام "فِلْ" بالزيارات المعتادة في مثل هذه الأحوال لموظفي الكونجرس، وقيل له بوضوح إن هذا البُعد تحديداً من ماضيه، وليس مؤهلاته وخبراته، هو الذي سيكون العنصر الذي سيتم التركيز عليه في جلسات الاستماع، فإن الرجل آثر بكل هدوء (وحكمة) أن يرفض. وقال في معرِض تبريره لقراره إنه يرفض أن يكون مثل "اللحم في السندوتش"، أي أن يحاصر من قبل هيئة الاستماع في الكونجرس بأسئلة عن تعريفه للتعذيب. وبالإضافة للأضرار النفسية التي كان يمكن أن يلحقها مثل ذلك التحقيق بـ"فِلْ"، فإن الرجل كان يدرك تماماً أنه لن يتمكن مهما فعل من إرضاء شهية الوحش الحزبي، وأن كل ما سيخرج به من ذلك التحقيق حول التعذيب هو المزيد من الانشغالات، التي ستصرف اهتمامه عن مجتمع الاستخبارات الذي أحبه وخدمه بكل تجرد وإخلاص. وهكذا حرمت الأمة الأميركية من خدمات رجل يبدو واضحاً للجميع أنه الأفضل تأهيلاً، والأكثر ملائمة، لشغل وظيفة قيادية استخباراتية في وزارة الأمن الداخلي. والمصير الذي انتهى إليه "فِلْ" هو عَرَض لحقيقة واقعية أكبر حجماً، وأكثر إثارة للقلق، تتمثل في أن طائفة كاملة من خبراء الاستخبارات ـ من أفضل الموجودين لدينا وممن دفعنا بهم في أتون الصراع ضد "القاعدة" عندما كانت الأمة تمر بأصعب اللحظات ـ تعاني الآن جراء التضحيات التي قدمتها لهذه الأمة، بل ويتم وضعها موضع الاتهام بسبب قرارات لم يكونوا مسؤولين عنها بالكامل، ولم يكن هناك أي نوع من المعارضة بشأنها في تلك الأوقات التي كنا معرضين فيها لأخطار داهمة. إن "فِلْ" من ضمن الخسائر الواضحة للجو السائد حالياً في واشنطن. ونظراً لمعرفتي أن هناك ـ بالتأكيد خسائر أخرى ربما تكون أقل وضوحاًـ فإنني لا أملك سوى أن أرجو من صميم قلبي ألا تكون سلامة هذه الأمة وأمنها من ضمن هذه الخسائر. مايكل هايدن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من عام 2006 وحتى فبراير الماضي. ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست