خلال ما يقارب الثماني سنوات، واصلت الولايات المتحدة الأميركية جهودها الرامية إلى بلورة سياسة ناجعة لاعتقال ومحاكمة ومعاقبة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم الإرهاب في إطار سياساتها العامة الخاصة بمكافحة الإرهاب. والمؤسف أن هذه المسائل الملحة وذات الأهمية البالغة، قد أحاط بها ضباب كثيف من الجدل المضلل المدفوع بسياسات الاستقطاب الحزبي الحاد. وبالنظر إلى ما أعلن عنه مؤخراً من إجراء تحقيق قضائي حول وسائل التحقيق التي اتبعتها وكالة \"سي. آي. إيه\" مع سجناء الحرب على الإرهاب، فإن من المتوقع أن تزداد المعضلة سوءاً مع توفر المزيد من التفاصيل خلال الفترة القصيرة المقبلة عن سياسات إدارة أوباما الخاصة بالاعتقال طويل المدى. ولهذه المعضلة شقان، أولهما هيمنة طرفين سياسيين متناحرين في ما بينهما على الحوار القومي الدائر بشأن سياسات الاعتقال. وبسبب هذا التناحر الحزبي، تتضاءل المساحة التي يمكن التوصل فيها إلى حلول عملية وأكثر اتزاناً وحكمة للمعضلة، علماً بأن هذه الحلول غالباً ما تطالب الطرفين بتقديم التنازلات اللازمة. فمن جانب، تستدعي الانتقادات الموجهة إلى سياسات إدارة أوباما الجديدة في مجال الاعتقال، الكثير من نسخة خطابية ما بعد 11 سبتمبر التي عبرت عنها النزعة الإمبريالية لإدارة بوش السابقة. وتميل وجهة النظر هذه، التي تسلط الاهتمام على السياسات الموجهة أمنياً بالدرجة الأولى، إلى توسيع صلاحيات الجهاز التنفيذي الحكومي. يتولى قيادة هذا الموقف نائب الرئيس السابق ديك تشيني، ورئيس موظفيه ديفيد أدنجتون، وجون يو، الذي عمل سابقاً نائباً بوزارة العدل. وعلى الجانب الآخر، هناك مؤيدو إدارة أوباما في الطرف الثاني من مائدة الحوار القومي العام حول الأمن القومي. ولما كان هؤلاء يغلبون على مواقفهم هواجسهم الخاصة بالحريات المدنية ودفاعهم عنها، فكثيراً ما ينظر إليهم من قبل خصومهم \"الجمهوريين\" الصقور، على أنهم مجموعة من الأغبياء الذين يخاطرون بسلامة أميركا وأمنها القومي. وهناك ملاحظة ثانية على الحوار القومي الدائر الآن حول سياسات الاعتقال. والمقصود بهذا هو أن القضايا الفردية ذات الصلة بالموضوع، كثيراً ما ينظر إليها من مواقف وتأويلات شديدة التعارض والتباين فيما بينها. خذ لذلك مثالا سجناء معتقل جوانتانامو، الذين نظر إليهم البعض كما لو كانوا مجرد ضحايا وأبرياء لسياسات إدارة جائرة مثل إدارة الرئيس جورج بوش. ومن الجانب الآخر، هناك من نعت هؤلاء السجناء بأنهم من أبشع وأسوأ المجرمين على الإطلاق. وبينما يمكن وصف كلا الموقفين بأنهما مضللان وبعيدان كل البعد عن الحقيقة، إلا إن ذلك لا ينفي القول إنهما يمارسان الدرجة نفسها من الخراب والدمار لكلا الحزبين. فلماذا هو الخلاف على هذا النحو؟ تجدر الملاحظة أن مواقف كلا الطرفين تكاد تستنسخ بعضها بعضا من حيث الأسلوب والطريقة التي يتم بها التعبير عنهما. كما تتمتع هذه المواقف بقدر كبير من الحيوية والتفاعل فيما بينهما. كما يسهل لكل طرف من الطرفين التعبير عن رأيه بالعبارات الانتقادية اللاذعة، سواء الصوتية منها، أم المرئية أم المطبوعة في المدونات الإلكترونية ومقالات الرأي والتعليقات المنشورة في الصحف اليومية. ومما يساعد على انتشار هذه المواقف الحزبية المتعارضة مع بعضها بعضا، تصلب المدافعين عنها والحادبين على نشرها، خاصة في أوساط القراء والمشاهدين والمستمعين الذين يعتمدون في تلقيهم للمعلومات والأخبار على المصادر الحزبية أكثر من غيرها. وفي كلا طرفي الصراع الثنائي الحزبي في البلاد، تلقى هذه المعلومات والقصص الإخبارية -الشديدة التبسيط والسذاجة عادة- صدى كبيراً لدى الجمهور، مؤدية بذلك إلى خلق فجوة كبيرة من انعدام الثقة المتبادل بين الطرفين. وبالنسبة لـ \"الديمقراطيين\" و \"الليبراليين\" تثير هذه القصص الإخبارية الفجة، شكوكاً عميقة في الجهاز التنفيذي الحكومي، بينما تعمق شكوك \"المحافظين\" في \"اليسار\" نفسه وقدرته على القيادة. ومع التراكمات ومرور الأيام يتعمق لدى الجمهور العام شعور بأن سياسات الاعتقال -في اختلافها مع المسائل الأخرى ذات الصلة بالحروب الثقافية- تصبح قابلة للنظر إليها بطريقة ما على أساس أن الخيارات فيها قاطعة ومحددة باللونين المتناقضين: الأبيض والأسود فحسب، أي أنها مسألة تناحرية غير قابلة لتقديم أي تنازلات فيها. وبذلك تتقلص كثيراً المساحة التي يمكن فيها للطرفين التوصل معاً إلى سياسات أكثر استدامة وتوفيقاً للصراعات، وقدرة على أن تحظى بالدعم الثنائي الحزبي. وربما لا يتفق طرفا الحوار العام حول الكثير من القضايا والأشياء، إلا إنهما يتفقان بشدة على أمر واحد فيما يبدو له صلة بسياسات الاعتقال هذه: أن يظل الجدل حولها حامياً ومحتدماً. ولكن ما هي النتيجة النهائية لهذا الموقف المصر على عدم الاتفاق مع سبق الإصرار؟ النتيجة أغلب الظن هي تبنيهما لما يمكن وصفه بـ \"مبدأ جنون ما بعد 11 سبتمبر\" . وكما نعلم فإن التوصل إلى سياسات مستدامة تحظى بتأييد ثنائي حزبي، تتطلب تقديم التنازلات اللازمة وتحمل المخاطرة السياسية في كلا الطرفين. بيد أن ثقافة انعدام الثقة والاستقطاب الحزبي السائدة الآن في موائد الحوار العام، تجعل من هذه التنازلات أكثر بعداً عن التحقق في الوقت الحالي. وإن كنا نعني حقاً بصحة وتعافي ثقافتنا السياسية، فإن علينا أن نحدد الهدف الجوهري لحوارنا العام الدائر بشأن سياسات الاعتقال. وفي هذا السياق علينا أن نأخذ بعدة خيارات ممكنة لبلورة سياسات اعتقال مستدامة ومتفق عليها من قبل كلا الطرفين. ويتطلب هذا فهماً متقدماً وواقعياً لما يمكن أن تؤديه كل أداة من الأدوات القانونية المستخدمة في بلورة تلك السياسات. علينا أن نحدد الوظيفة القانونية المحددة لكل أداة من الأدوات، ما هي حدودها القانونية، ولأي مدى يمكن أن تؤثر هذه الأدوات على بعضها بعضا في حال تعديل وظيفة أي منها؟ وفي رحلة البحث المرهق عن إجابات واقعية عملية لهذه الأسئلة الشائكة، نأمل من كافة الأصوات المشاركة في الحوار العام -خاصة الصحفيين باعتبارهم الفئة الأكثر قدرة من غيرها على تحديد قضايا الحوار المثارة وتأطيرها- أن تتجاوز ثقافة الاستقطاب الحزبي وتسييس القضايا موضوع الحوار، وهي الثقافة التي عصفت بسياسات الاعتقال الخاصة ببلادنا، جراء المواقف التناحرية التي تبناها كلا طرفي طيفنا السياسي الرئيسيين. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\"