لم يُعجب القادة الروس قط بتعاون الولايات المتحدة مع بولندا وجمهورية التشيك لإقامة صواريخ دفاعية تتصدى للخطر الإيراني المتنامي، ففكرة استضافة الدولتين اللتين كانتا في السابق عضوين في حلف \"وارسو\" الخاضع لموسكو لعشر صواريخ موجهة لاعتراض الهجمات في بولندا ومنشأة رادار مصاحبة لها في جمهورية التشيك، لم تكن أبدًا مقبولة لدى الروس الذين لم يستوعبوا تحول الحليفين السابقين في المعسكر الشرقي إلى دول تدور في الفلك الأميركي وتنشر أسلحتها على أراضيها. فقد اشتكت روسيا أن نظام الصواريخ الذي يراد إقامته بالقرب من حدودها الغربية يستهدفها هي وليس إيران وهددت بإجهاض المفاوضات الجارية مع الولايات المتحدة حول مراقبة الأسلحة إن لم تتراجع هذه الأخيرة، علماً أن موضوع مراقبة الأسلحة والحد منها لا علاقة له بالدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية. واليوم يبدو أنه بإعلان إدارة أوباما يوم الخميس الماضي تخليها عن مشروع نشر الصواريخ في بولندا وجمهورية التشيك نجحت الشكاوى الروسية في تحقيق هدفها ووقف التحرك الأميركي، رغم أن خضوع الإدارة الأميركية للضغوط الروسية يمثل خيانة قاسية لحلفائها المقربين في وارسو وبراغ، اللتين جازفتا بانتهاج سياسات غير شعبية نزولًا عند طلب إدارة بوش التي دفعتهما إلى الموافقة على نشر الدرع الصاروخية لاعتراض الخطر الإيراني، واللافت أن الانسحاب من المشروع تزامن مع الذكرى السبعين للغزو السوفييتي لبولندا ليؤذي أكثر مشاعر البولنديين. والغريب أن أوباما الذي كان قد تحفظ على نشر الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية خلال حملته الانتخابية في العام 2008 ولم يبد الكثير من التعاطف تجاه سياسة إدارة بوش بهذا الخصوص عاد وأظهر استماتة أكبر وموقفاً أقرب إلى سلفه عندما تولى الرئاسة، حيث سبق أن صرح في 5 أبريل الماضي خلال زيارة قام بها إلى براغ قائلًا \"إن أنشطة إيران النووية وتطويرها للصواريخ الباليستية يمثل خطراً حقيقياً ليس فقط على الولايات المتحدة، بل أيضاً بالنسبة للدول المجاورة لإيران وباقي حلفائنا\"، مضيفاً أن \"جمهورية التشيك وبولندا تحليا بالشجاعة عندما وافقا على استضافة نظام دفاعي ضد الصواريخ، ومادام الخطر الإيراني مستمراً، سنذهب قدماً في إقامة الصواريخ الدفاعية ذات التكلفة المنخفضة والكفاءة المجربة، لكن إذا نجحنا في تحييد الخطر الإيراني سنعزز القاعدة الأمنية وتنتفي الحاجة إلى بناء نظام للصواريخ في أوروبا\". وأياً كان التفسير الرسمي الذي قدمته إدارة أوباما لعدم مواصلة المشروع والتخلي عنه سيقرأ الكثيرون ومن بينهم الكريملن الخطوة الأميركية على أنها محاولة لإرضاء موسكو وتهدئة مخاوفها التي سبق أن عبرت عنها في أكثر من مناسبة، كما أن الإعلان عن سحب خطة نشر الصواريخ الدفاعية قبل الاجتماع المرتقب بين أوباما والرئيس الروسي، ديميتري ميدفيديف، في الأسبوع المقبل يعزز هذا الاعتقاد، حيث يبدو أن الإدارة الأميركية تعطي الأولوية في هذه المرحلة لمعاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية، وما التخلي عن نشر الدرع الصاروخية في بولندا وجمهورية التشيك إلا لتجاوز عقبة أساسية لاستكمال المعاهدة والمصادقة عليها. لكن المصلحة الأميركية في مراقبة الأسلحة والحد منها لا تفوق في الحقيقة المصلحة الروسية وحاجتها للمصادقة عليها، ففي جميع الأحوال لم تعد روسيا قادرة على إبقاء ترسانتها النووية المتقادمة، ولا هي قادرة على منافسة أميركا في سباق للتسلح وتطوير أخرى جديدة، كما أن الأسلحة النووية الروسية هي ضمن المدى المتفق عليه في المفاوضات الأخيرة، أو تقترب منه، بحيث كان يفترض أن يشكل ذلك ورقة ضغط في يد الولايات المتحدة، لكن حرص إدارة أوباما على التوقيع على المعاهدة قبل انتهاء صلاحيتها في الخامس من شهر ديسمبر المقبل أضاع تلك الورقة. والحقيقة أن إدارة بوش كانت ترفض على الدوام المحاولات الروسية للربط بين نشر الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية وبين التوقيع على معاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية، وهو الموقف نفسه الذي تبنته إدارة أوباما في البداية عندما رفضت هي الأخرى الربط بين المسألتين، إلا أن الإدارة ارتكبت خطأ فادحاً أثناء زيارة أوباما إلى روسيا الصيف الماضي عندما وافق على إصدار بيان مشترك حول قضايا الصواريخ الدفاعية تحدث في نفس الوقت على تفاهم بشأن معاهدة لمراقبة الأسلحة. وفي مؤتمر صحفي عقده مع أوباما في السادس من شهر يوليو الماضي استغل ميدفيديف هذا التنازل الأميركي كما جاء في البيان المشترك ليدلي بتصريح قال فيه \"إننا نتحدث في تفاهمنا المشرك الذي وقعنا عليه عن الصلة بين الأسلحة الدفاعية والهجومية، وهو ما يشكل تقدماً إلى الأمام، فقبل فترة من الزمن لم نكن متفقين حول هذا الموضوع، لكننا اليوم اتفقنا على الربط بين الأسلحة الدفاعية والأخرى الهجومية ليفتح ذلك أمامنا فرصة لتقريب المواقف\". ومع أن الإصرار الروسي وإلحاحها المتكرر على الربط بين الدرع الصاروخية واتفاقية مراقبة الأسلحة كان يفترض أن يصعب الأمر على أوباما ويمنعه من الانسحاب، إلا أنه تخلى في النهاية عن النظام الصاروخي، علماً أنه لم يكن يمثل أية خطورة على روسيا، وحتى ما يقال عن تأمين المساندة الروسية في التعامل مع إيران ليس مؤكداً، بل يبدو مستبعداً ليبقى الخاسر الأكبر من هذا التراجع الأميركي هي دول أوروبا الشرقية، لا سيما بولندا وجمهورية التشيك. ودفاعاً عن قرارها تقول إدارة أوباما إن إيران لم تطور بعد قدراتها في مجال الصواريخ بعيدة المدى كما كان يعتقد في السابق، رغم أن إدارة بوش انطلقت في مشروعها من تقدير يؤكد أن إيران ستمتلك تكنولوجيا الصواريخ بعيدة المدى خلال أربع إلى خمس سنوات، وهي الفترة التي سيكون فيها النظام الصاروخي جاهزاً للعمل، لكن روسيا التي دخلت في صراع إرادة مع الولايات المتحدة حول الدرع الصاروخية تمكنت فيما يبدو من كسب المعركة بعدما ربطت ببراعة بين التصديق على معاهدة خفض الأسلحة النووية وسحب المشروع الصاروخي من أوروبا الشرقية. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\"