شأنه شأن سابقيه، يكتشف الرئيس أوباما الآن أن إقناع إسرائيل بتغيير مسارها هو أمر يقترب من حدود المستحيل. فعندما جاء إلى الحكم كان مصمماً على إنجاز حل الدولتين بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وكانت الخطوة الأولى التي قرر اتخاذها هي الإصرار على ضرورة إيقاف الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وهي خطة صعبة كان هدفها تعزيز وضع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وإقناع الدول العربية الرئيسية بتقديم مبادرات تصالحية تجاه إسرائيل. وكان من المفترض أن تنتهي هذه الخطوات بإنشاء دولة فلسطينية، قابلة للحياة والنمو، وبتطبيع علاقات إسرائيل مع جيرانها العرب، وأخيراً على إعادة ترميم صورة أميركا في العالم الإسلامي. لكن، ولسوء الحظ، لم يكن لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أي اهتمام بحل الدولتين، ناهيك عن وقف الاستيطان. فهو وحكومته يسعون إلى إقامة \"إسرائيل الكبرى\"، أي الاحتفاظ بالسيطرة التامة على الضفة وقطاع غزة. لهذا تراوح رد فعله على مبادرة أوباما بين المماطلة والرفض الصريح الذي لم تبذل واشنطن سوى القليل من الجهد لصده. وهذا الوضع يمثل مأساة بالنسبة لشعبين عانيا بما فيه الكفاية، ما يدفع للقول إنه ما لم يستدعِ أوباما مهارته وبراعته لكسر الجمود، فإن حل الدولتين سيغدو مستحيلا وسيصبح وضع الساعين إلى السلام أسوأ من ذي قبل. في البداية ادعى نتنياهو أن إدارة بوش كانت قد سمحت لإسرائيل بـ \" النمو الطبيعي\" للمستوطنات، وهو ما كذبته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، ثم عاد ليعلن أن إسرائيل بصدد استكمال 250 وحدة سكنية كانت قد شرعت في بنائها من قبل. بعد ذلك قدم تنازلا محدوداً إثر خطاب أوباما الذي وجهه من جامعة القاهرة إلى العالم الإسلامي، وذلك حين أشار عرضاً إلى \"دولة فلسطينية منزوعة السلاح\"، إلا أنه عاد إلى اتخاذ موقف متشدد بوضعه مجموعة من الشروط تجعل قيام مثل تلك الدولة مستحيلا... وهو ما جعل المراقبين ينظرون إلى ما قاله من قبل عن الدولة الفلسطينية على أنه كان بمثابة تنازل وهمي من طرفه تجنباً للصدام مع رئيس كان يحظى بشعبية كبيرة في ذلك الوقت. وبعد أن هبطت نسبة تأييد أوباما في استطلاعات الرأي، عاد نتنياهو للتشدد في موقفه مجدداً. فعندما حاول المسؤولون الأميركيون إيقاف خطة إسرائيلية لتحويل فندقين عربيين إلى شقق يهودية في حي الشيخ جراح العربي في القدس الشرقية، قال نتنياهو إن القدس ليست مستوطنة، ومن ثم لا مجال لحديث عن تجميد الاستيطان فيها! وفي الشهر الماضي قال مسؤول أميركي اشترط عدم ذكر اسمه، إن محادثات السلام يمكن أن تستمر، دون إيقاف بناء المستوطنات كلياً، لكن نتنياهو رد بتصريح مضاد قال فيه إنه يعارض التجميد الكامل للمستوطنات في كافة الأحوال. وبعد ذلك بأيام قليلة رخصت إسرائيل بناء مئات الوحدات السكنية الإضافية في الضفة الغربية، واكتفى البيت الأبيض بالقول إنه يأسف لهذا التصرف مضيفاً أن \"التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل كان ولا يزال راسخاً\". وبعد ذلك بثلاثة أيام فقط أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن مناقصة لبناء 468 شقة جديدة في القدس الشرقية، ومنذ أسبوع واحد فقط أعلن نتنياهو أن التجميد الكامل لبناء المستوطنات \"لن يحدث\"، وأن البناء في القدس \"سوف يستمر كما هو معتاد\". والسؤال الجوهري: لماذا يتحدى نتنياهو أوباما علناً على هذا النحو؟ لأنه ظل طويلا، ولا يزال، ملتزماً بحلم بناء إسرائيل الكبرى، ولأن الدولة الفلسطينية الوحيدة التي يمكن أن يقبل بها هي دولة ممزقة الأوصال وواقعة تحت السيطرة الفعلية لإسرائيل. ولأن حكومته هي إحدى أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل، ما يعني أنها قد تسقط إذا ما قدم تنازلات ذات مغزى للفلسطينيين. كما أن أي محاولة من جانبه لنقل قطاع كبير من المستوطنين الإسرائيليين الذين يعيشون في الضفة، والذين يربوا عددهم على 300 ألف مستوطن، قد تؤدي إلى رد فعل عنيف، وقد تعرضه هو شخصياً لمصير مماثل لمصير سلفه الأسبق رابين الذي اغتيل على يدي متطرف يهودي عام 1995. بعض المراقبين يقولون إن قرار نتنياهو بناء وحدت جديدة في الضفة هو مجرد محاولة لاسترضاء حلفائه في الجناح اليميني، وأنه سيوافق في نهاية المطاف على تجميد مؤقت للمستوطنات وعلى الدخول في مفاوضات جدية مع الفلسطينيين. لكنه حتى إذا ما تعهد بذلك، فإن تعهده لن يكون له معنى إذا ما أخذنا تجارب الماضي في الحسبان. فالحكومات الإسرائيلية السابقة تعهدت عدة مرات بإيقاف الاستيطان، لكن عدد المستوطنين تضاعف منذ بداية التسعينيات، وظل ينمو بنسبة 5 في المئة سنوياً منذ أن وافقت إسرائيل على \"خريطة الطريق\" كإطار عام للتسوية في الشرق الأوسط عام 2003. علاوة على ذك فإن أوباما، بمطالبته إسرائيل تجميد المستوطنات، يحاول في الواقع جعل الدولة العبرية تتوقف عن برنامج ظلت حكوماتها المتعاقبة تسعى لتنفيذه خلال الـ40 عاماً الماضية. ورغم أن الولايات المتحدة تمنح إسرائيل ما قيمته 3 مليارات دولار في صورة مساعدات سنوية، فالمرجح أن مجهودها الرامي إلى إيقاف التوسع وتحقيق حلم الدولتين، سيكون مآله الفشل في النهاية. لكن لماذا يسمح أوباما لنتنياهو بإحباط جهوده؟ من أسباب ذلك أن أوباما مثقل بمشكلات تشمل الأزمة الاقتصادية، ومعركة الرعاية الصحية، وأفغانستان، والبرنامج النووي الإيراني... ما يعني بالتالي أن قدر الاهتمام الذي يمكن أن يخصصه للصراع العربي الإسرائيلي محدود جداً. يأتي بعد ذلك دور اللوبي الإسرائيلي. والخبر الجيد في هذا السياق أن هناك لوبيا جديدا مواليا لإسرائيل، هو \"جيه ستريت\"، يلتزم بحل الدولتين ويقف بحزم خلف أوباما. أما الخبر السيئ فهو أن لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية \"إيباك\" وغيرها من اللوبيات التي تدافع عن بقاء الوضع الحالي كما هو، لا تزال قوية وستعرقل أي محاولة من أوباما للضغط على نتنياهو. ومن ضمن ما قامت به \"إيباك\" في هذا الصدد توجيهها رسالة تنبه فيها أوباما لضرورة العمل عن قرب مع إسرائيل، وهي رسالة تمكنت اللجنة من تأمين 239 توقيعاً لها في مجلس النواب، و76 توقيعاً في مجلس الشيوخ. وخلال عطلة الكونجرس، في شهر أغسطس الماضي، قام 56 مشرعاً بزيارة إسرائيل حيث أدلى زعيم الأغلبية بمجلس النواب \"هنري إتش هوير\" بتصريح قال فيه إنه من الخطأ جعل بناء المستوطنات موضوعاً رئيسياً، علاوة على وجود \"فرق كبير\" بين مستوطنات الضفة ومستوطنات القدس. وإذا ما حاول أوباما الربط بين استمرار المساعدات الأميركية لإسرائيل وبين تجميد بناء المستوطنات، فإن الكونجرس سيستطيع التغلب عليه بسهولة. فبممارسته ضغطاً على إسرائيل يغامر أوباما باستعداء السياسيين الرئيسيين، وكبار جامعي التبرعات الديمقراطيين، بالإضافة إلى مؤيدي إسرائيل في وسائل الإعلام، وهو ما يهدد قدرته على تنفيذ البنود الباقية على أجندته، مما يؤثر على حظوظه في الفوز بولاية ثانية. من ناحية أخرى إذا لم يحدث تقدم نحو إقامة دولة فلسطينية في القريب العاجل، فذلك سيضعف وضع الرئيس الفلسطيني عباس وغيره من القادة العرب المعتدلين، ويؤدي إلى تعزيز قوة ونفوذ الجماعات المتطرفة مثل \"حماس\"، كما سيجعل الوعد الذي قطعه أوباما على نفسه، في خطابه من جامعة القاهرة، بإنشاء تلك الدولة، يبدو وعداً أجوف. وفي ذلك الخطاب قال أوباما إن حل الدولتين هو في مصلحة الإسرائيليين، ومصلحة الفلسطينيين، ومصلحة أميركا، ومصلحة العالم. لقد كان على حق حين قال ذلك، لكن العالم ليس هو المطالب بالوقوف وراء هذه الرؤية حتى تتحقق، وإنما المطلوب هو أن ينجح أوباما في إقناع الإسرائيليين بهذه الرؤية، وهو ما سيتطلب منه ممارسة ضغط دائم على إسرائيل. ولكي ينجح في ذلك عليه استخدام نفوذه كي يشرح للشعب الأميركي أن حل الدولتين هو أفضل محصلة بالنسبة لإسرائيل، وأن الوقت يكاد ينفد. وإذا لم ينجح أوباما في توصيل هذه الرسالة فسيكون في صف طويل من الرؤساء الأميركيين الذين حاولوا إنهاء هذا الصراع وفشلوا في ذلك. ستيفن.إم. والت. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استاذ الشؤون الدولية بجامعة هارفارد --------------------------------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\"