احتفالات هذا العام بالعيد الثامن والثلاثين للاتحاد تميزت بشموليتها وبأجواء وطنية رائعة، كما تميزت بتفاعل شعبي كبير ومظاهر احتفالية حافلة. عفوية المواطن جاءت لتلتقي مع التخطيط الرسمي الجيد للفعاليات، لتعبر عن مظاهر فرحة حقيقية وزهو المواطن بوطنه وإنجازاته عرفاناً لما تحقق خلال هذه العقود الزاهرة. مع احتفالنا بالذكرى الثامنة والثلاثين لعيد اتحادنا، ندرك بأن الاتحاد هو الصخرة القوية الراسخة، والتي تمثل الإنجاز الأكبر، ويحق لنا أن نفخر أن التجربة الأنجح في العالم العربي، هي تلك التي خضنا غمارها، فبعد ثلاثة عقود ونيف من العمل الشاق والمتزن، نرى ثمرته في التنمية والاستقرار، الذي تحقق ونرى طمأنينتنا في شموخ هذه الشجرة وفي ظلها الوارف وفي جذورها الراسخة. والطريق الذي أمامنا قد يختلف في التضاريس عن ذلك الذي تركناه خلفنا، إلا أنه شبيه له في أنه سيتحدى الرجال وسيتطلب منا حسن التدبير والعمل الجماعي المخلص والرأي المستقل، فهذا الصرح الكبير الذي نفخر به لم يبن إلا من خلال هذه القيم المباركة، ومن خلال روح وطنية صافية تغلب العام على الخاص، ومن خلال حكام ورجال آمنوا بهذه الأرض وبأبناء الإمارات وعطائهم. شهد العيد الوطني الثامن والثلاثون احتفالات متميزة ومتفردة وغلبت ألوان العلم، الأحمر والأخضر والأبيض والأسود على المشهد العام. وكانت الاستجابة الشعبية للاحتفال عفوية وتلقائية وحماسية في العديد من مشاهدها الكبيرة والصغيرة، وتخطت مظاهر الاحتفال الحياة اليومية وطقوسها لتغوص في الأعمق، فنحن شأننا شأن العديد من الدول الناشئة نخوض معركة الهوية ومعركة تأصيل الانتماء للوطن، وتعد مظاهر الاحتفال والتجاوب الكبير معها خطوة من ألف خطوة في هذه المعركة الطويلة، والتي لا بد منها، فها هي العديد من الدول وبرغم أنها أقدم في استقلالها، إلا أنها تعاني من تجاذب الهويات وتحدي الانتماءات الأصغر على حساب الانتماء للوطن. وفي حال الإمارات، نرى أن الوطن وبإنجازاته وبإنسانيته وبعطائه يقول لمواطنيه انتموا إليّ، لا لأنني فقط وطن لكم، ولكن لأنني وطن حنون راع لكل منكم، فما أجمل تجربتنا هذه، وما أحوجنا لرعايتها وتعزيز حضورها. يرى الوافد والزائر في تجربتنا أحياناً مظاهرها الخارجية، وربما أحياناً أخرى قشورها، يرى الفنادق والأبراج والمطارات والطرق السريعة ومظاهر أخرى من عمرانها، ولا خلاف لنا مع هذه الرؤية، فالجوانب المادية المحسوسة جزء كبير ومهم من نجاحنا وجزء له دلالات حول ردود أفعالنا تجاه المقولة القديمة التي تطالب بتنويع مصادر الدخل وخطورة اعتماد نموذج الدولة الريعية، ولا ندعي بأي حال من الأحوال، بأننا نجحنا بصورة قطعية، لكن يبقى لنا شرف المحاولة والمثابرة، ومع هذا، ونحن نحتفل بالعيد الثامن والثلاثين، لا بد لنا من أن نشير بأن التنمية التي تحققت من خلال التجربة الاتحادية عميقة وغزيرة، ولمن لا يريد أن يبحث عن الدلالات في المنجز المادي، فليبحث عنه في الإنسان، وليكتشف تجربتنا بأعين جديدة وبآذان جديدة، فمن نسب أمية تناقصت للخمسة بالمائة إلى متوسط عمري يصل للثمانين عاماً للنساء والسبعة والسبعين للرجال، إلى مايزيد على مائتي مستوصف ومستشفى في بلد كان كل رعايته الطبية تتمثل في مستشفى وحيد في 1951، وفي مجتمع في بداياته طالما عانى من الجهل والأمية، إلى مجتمع يدرك أهمية التعليم ودوره التنموي، وهو الجانب الذي سرعان ما روينا ظمأه هذا بالاستثمار في العديد من الجامعات والبعثات الدراسية والخريجين، وكما كان التعليم مفتاحاً للمستقبل يبقى كذلك، ويبقى أولوية رئيسية واستثماراً ضرورياً، فانفتاح العقول وتدريبها هو طريق النجاح، والدروس من تجارب الأمم واضحة ساطعة، ولقد شهدنا خلال العقود الماضية أن سر نجاح العديد من دول آسيا، يكمن في مثل هذا الاستثمار، ولعلنا نستعير في هذا المقام عبارة أن الإنسان قبل المكان كتعبير بليغ وموجز لهذه القناعة، التي لا بد لها أن تتجذر، وعلى كل مستوى لتعبر عن إدراكنا لأسس النجاح. الإمارات التي ولدت ضعيفة ومتأخرة وفي ظروف إقليمية حرجة، راهن العديد من المراقبين ضد فرص استمرارها و استقرارها، هذا الكيان الذي حسبه البعض عابراً وضعيفاً، أثبت خطأ قراءتهم وبيانهم، فمن البدايات المتواضعة الصعبة، بات للدولة حضور إقليمي ودولي محترم ورصين. وباتت من أمثلة النجاح في سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية، وكانت وتبقى الجار المسالم والصديق الوفي والدولة التي تمتد أياديها البيضاء للمساعدة من خلال بعد إنساني شفاف، وحين تتطلب الأحداث موقفاً صلباً ومبادرة قوية نرى بلادنا حملت راية هذا الموقف من واقع الشعور بالمسؤولية تجاه دورها وعالمها. ومن تجربة شخصية في الترويج لاستضافة عاصمتنا أبوظبي لمقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (أيرينا) لمست التقدير الكبير للدولة وتجربتها وقيادتها في عواصم شتى من بلاد العالم منها القريب ومنها البعيد. نعم، تجربة الاتحاد ناجحة وبتميز بكل المقاييس، ونحن أبناء الاتحاد نرى هذا الكيان حصناً حصيناً نحرص عليه صباح مساء، وحرص جيلنا يأتي من إدراك العارف بأن الطريق لم يكن دوماً سهلاً وسلساً، بل واجه الصعوبات ومحاولات التهميش والتشكيك، كما واجه الفقر والأمية والتفرق، مهاماً تنوء تحت وطأة حمله دول رسخ استقلالها فما بالكم إن هو حمل تحملته دولة وليدة في منطقة من مناطق العالم المضطربة. ولعلنا في العديد من المفاصل تعلمنا من التجارب، ومن يتعلم من التجارب يخطئ أحيانا، ولكننا تعلمنا، وهذه الإمارات التي تحتوينا هي غير تلك الإمارات، التي كانت خجولة في بداياتها المتواضعة، فنحن اليوم نحمل نضج المجرب الناجح، وفكر التجربة الناجحة، وفي خضم ذلك كله حافظنا على التوازن والواقعية والوسطية في خط سيرنا، وغلبنا التنمية والاقتصاد على السياسة، التي تعاطينا معها وسيلة ولم نلجأ إليها غاية، وسعينا دائماً إلى ترسيخ منهج وفكر الدولة العادلة المقتدرة. لم يكن النفط سر نجاح الإمارات، فسر نجاح الإمارات القيادة ونضجها، فالعديد من دول العالم حباها الله بالثروة النفطية ولكنها وبعد عقود من غلبة عصر النفط، لم تزل تعاني من آفات العصر، دون أن تنعم بإنجازاته، وفي العديد من الدول كان النفط أساس ثقافة الفساد والإثراء غير المشروع، حتى باتت مثل هذه الممارسات هي القاعدة وغير ذلك من الشواذ، وفي مناطق أخرى جاء النفط ليفرق وليكون عنصراً للتفتت والاقتتال، فالثروة تبقى الوسيلة ويبقى حسن التدبير أساساً، وفي هذا الجانب يأتي دور القيادة فارقاً جوهرياً ومكوناً لا بد منه للمسيرة الناجحة، فمنذ البداية حبى الله هذا الوطن قيادات واعية عركها الزمن وأدركت ضرورة التشاور والعمل الجماعي وموازنة الأمور، وتلا كل نجاح طموح أكبر، لندرك أن الهدف هو الدولة الأكثر تقدماً في عالمنا ومحيطنا، مثالًا عربياً عصرياً للوحدة والتسامح والتنمية. ولاشك أن دور المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ملحمي في هذا الجانب ومثله اليوم دور صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، والذي يضيف إلى التجربة الشيء الكثير، ويطبعها برزانته وهدوئه وبصيرته، ومعه دور صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم المتميز بطموحه وجسارته، ومعهم إسهامات الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد العديدة وشخصيته القيادية ورؤيته العصرية وغيرته الوطنية، فالنفط، سبب للنجاح، ولكن قبل وبعد النفط، تأتي القيادة وتقاليد الحكم الرشيد بما في ذلك الجماعية والتشاور في إدارة الشأن العام. نكتب هذه السطور اليوم، وقد عشنا دقائق فصل جديد من الأزمة العالمية تمحورت حول دبي وديون شركة دبي العالمية، ولا أضيف جديداً حين أصف الأيام الماضية بأنها كانت ريحاً إعلامية هوجاء تعرضت فيها دبي وتجربتها الرائدة إلى هجوم أسلحة التشكيك والكلمة المبطنة آناً والجارحة آناً آخر، والمتابع للصحافة الغربية يدرك أن الهجوم ما زال مستمراً في تناوله لتجربة دبي وفي تعرضه للإمارات، بل وفي محاولاته الاصطياد في مياه علاقة دبي بأبوظبي، وتنوعت المقالات بين المتزن و المنزعج والرخيص، ولا شك أن انكشاف الشركة وإدارتها أعطى لكل هؤلاء الفرصة لمحاولة النيل من دبي والإمارات، ولا بد لنا من أن نضيف أن الأزمة الحالية تطور طبيعي من أزمة عالمية طالت كافة أركان هذه الدنيا، ومن الطبيعي أن دبي والإمارات هي الأكثر تعولماً، إن صح التعبير، في العالم العربي والمنطقة ولهذا السبب نرى أن مظاهر الأزمة تبقى أكثر حدة هنا، وهذا الامتحان الذي نواجهه اليوم في عيدنا الثامن والثلاثين وبرغم حدته إلا أننا ومن خلال العمل الجماعي سنتجاوزه، لأن دروس المرحلة يجب أن تكون ضرورة المأسسة وتغليب العمل المؤسسي على العمل الفردي، وسنتجاوزه لأن ثقافة المؤسسة والرقابة والمحاسبة، هي التي يجب أن تسود، وهي التي يجب أن تكون نهجنا للخروج من الأزمة، وها نحن نشهد العمل المشترك بين الاتحادي والمحلي رداً ناجعاً واضحاً في وجه شك المشككين، إن الأزمة الحالية وبرغم حدتها ليست بالأزمة الوجودية، واتحاد إماراتنا، واجه تحديات مصيرية وفي مراحل دقيقة كان فيها الغصن أخضر والدولة ومؤسساتها في مراحل التكوين الأولى. نحن أبناء هذا الاتحاد ومن جيل ما قبل ذلك اليوم المبارك في ديسمبر 1971 ندرك أهمية هذه اللحظة التاريخية وصدقها، ونرى ما هو أبعد من الألوان الرباعية التي تعبر عن الدولة وترمز إليها، ففي كل مفترق تزداد قناعتنا بأن الاتحاد هو الصخرة الصلبة الراسخة، وهو المرفأ الآمن، وهو الإضافة التي أصبحت جزءاً منا كياناً ووجوداً. وكما شهدت الثمانية والثلاثون عاماً الماضية المنجزات الكثيرة، ندرك قطعاً أن ثمار هذه الشجرة الخيرة تبشر بالمزيد من العطاء. المستقبل وفي سياق تدارس تجربة العقود الماضية يبدو زاهياً ولعل كلمة صاحب السمو رئيس الدولة الشاملة بمناسبة عيد الاتحاد تمثل منهاجاً وبرنامجاً نسير على هديه، وها هي السفينة التي حملتنا في رحلتها الخيرة، تشد الرحال من جديد في سعيها لتجديد الإنجاز وتحقيق النجاح.