في آخر مراحل دراستي للسياسة في جامعة الإمارات كان هناك مساق يبحث في دول جوار الوطن العربي، وكان يطرحه دكتور جدير بالتقدير والاحترام، أجل إنه مساق يبحث في دول جوارنا من خلال العلاقات البينية السياسية والاقتصادية والثقافية. وفي آخر مستجدات السياسة العربية ظهر مسار جديد لم يُكشف عنه بقدر ما هو مسار يعكس الحال العربية الراهنة وما عليه استقرار المنطقة من ضعف. وإذا قبلنا بفكرة العلاقات العربية مع دول الجوار، فإنه يجب أن نؤكد أن علاقات دول الجوار تكون أكثر خصوصية بالدول التي تجاورها مباشرة. حقيقة لابد أن نسأل، لماذا أعيد طرح ما يسمى بدول الجوار العربي وهذه المرة خارج مقاعد الدراسة؟ وما هي دول الجوار العربي وبما تمتاز؟ وما أبعاد دور دول الجوار في الوطن العربي؟ يأتي طرح دول الجوار من خلال فكرة أن هناك مُسلمة تقول بوجود دور إيجابي أو سلبي لهذه الدول، ويفترض إمكانية أن يتحول هذا الدور إلى دور يعزز ويدعم استقرار المنطقة. الطرح يبحث عن دور إقليمي يساعد دول المنطقة على الاستقرار، ربما لوجود فكرة أن الدول خارج الإقليم العربي لا تستطيع تحقيق الاستقرار كما أن الخطر هو خطر إقليمي أوّلا يحيط بالوطن العربي. ولكن لم أصل إلى النقطة الأصلية في بروز دول جوار الوطن العربي. حقيقة وبعيداً عن الحديث التاريخي عن تلك العلاقات، لا شك عندنا بأن الولايات المتحدة وروسيا هما السبب، فالأولى تغيرت علاقاتها مع تركيا منذ احتلال العراق بشكل كبير مع بروز الأكراد، كما أن تركيا تغيرت من الداخل عبر حزب "العدالة والتنمية". أما روسيا، فقد حرّكت إيران كدولة إقليمية خليجية وشرق أوسطية وللصين دور أيضاً، كما أن المصالح والمتغيرات الإقليمية والدولية لها دور كبير، ولا بد من أن نلفت الانتباه إلى البروز الإيراني والتركي في المنطقة بروز طبيعي لدولتين تبحثان عن مصالحهما الخاصة الإقليمية، والتي تنعكس دولياً ويساعدهما في ذلك البعد الجغرافي والتاريخي والإثني والثقافي، كما أن المنطقة العربية منطقة مفتوحة أصلاً في علاقاتها التعاونية والصراعية مع مختلف الدول، وتعد أكثر انفتاحاً، ناهيك عن عدم وجود دول وتجمعات مغلقة أصلاً. عندما ننظر إلى الخريطة الجغرافية نجد أن أهم الدول التي تجاور الوطن العربي هي إيران وتركيا وإثيوبيا وإسبانيا حيث جميع هذه الدول تجاور دولة أو أكثر (من الدول العربية) عبر الجرف القاري، فإثيوبيا تجاور الصومال والسودان، وتركيا تجاور سوريا والعراق وأيضاً إيران التي بدورها تجاور جميع دول الخليج بحريا وتحتل الجزر الإماراتية وتجاور العراق قارياً. وفي نقطة أخرى تشترك تركيا مع إثيوبيا بأنها منبع لأنهر داخل دول عربية محددة. أما إسبانيا فهي ترتبط بالمغرب العربي بالجوار الجغرافي بين الشمال الأفريقي والجنوب الأوروبي وزاد التفاعلاتِ الدوليةَ اتصالُ مدينتي سبتة ومليلية المغربيتين المحتلَّتين (أي وجود لجوار قاري)، كما أنها تنفرد بكونها دولة أوروبية ليست من دول الشرق الأوسط أو أفريقيا. ومن الموضوعية أن نسلم بأن إسرائيل دولة معترف بها دوليا، وهي تجاور دولاً عربية بريًّا وبحريًّا وربما هي أكثر جوارا جغرافيًّا بعد إيران طبعاً حيث تحيط بها دول عربية، وتنفرد إسرائيل بكونها أكثر جوارا قارياً عن إيران وتركيا وإسبانيا وإثيوبيا. ومما لا شك فيه أن طبيعة العلاقات الدولية تنطوي على التعاون والصراع، وهذا ينطبق على مسار العلاقات العربية مع دول الجوار التي طالما حركتها المصالح المشتركة والمتضاربة أحياناً. وهنا نعرض أحد أبعاد دور دول الجوار بأخذ إسبانيا نموذجاً لأننا كثيراً ما طرحنا إيران وتركيا وإسرائيل، وسوف نعرض العلاقات في فترات زمنية مختلفة وسياسات متضاربة أحياناً. ففي حقبة الجنرال فرانكو، نجد الحكومة الإسبانية تلعب دوراً مهماً في القضايا العربية، وخاصة القضية الفلسطينية سواء بالمساعدة المقدمة للاجئين الفلسطينيين أو الموقف السياسي المتمثل في الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني في ممارسة حقه وتقرير مصيره والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا شرعياً ووحيداً للفلسطينيين ويؤكد ذلك تصويت إسبانيا لصالح قرار الأمم المتحدة رقم (3236) حيث كانت مع البرتغال هما الدولتان الوحيدتان في أوروبا اللتان صوتتا لصالح الشعب الفلسطيني في 22 نوفمبر عام 1974. أما عهد الملك خوان كارلوس فقد حمل تطوراً كبيراً في افتتاح مكتب بمدريد لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1977 ليرتفع مستوى التمثيل إلى الصفة الدبلوماسية في عام 1986 بعد الاعتراف الإسباني بإسرائيل، والذي أكدت فيه ضغوط اللوبي الصهيوني في أوروبا والمساومة على دخولها المنظمة الأوروبية، وبأنها لن تغير توجهها السياسي تجاه القضية الفلسطينية وهذا ما جعل إسبانيا تحضن مفاوضات مدريد لاحقا. ولم يقف الاهتمام الإسباني عند حدود القضية المركزية للعرب، بل وجدنا إسبانيا من النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين تتصدر مبادرة استراتيجية على الصعيدين المتوسطي والأوروبي بحكم موقعها الجغرافي المناسب وبفعل علاقاتها المتوازنة على ضفتي البحر المتوسط الجنوبية والشمالية لتلعب دور الوسيط في الحوار الأورو – متوسطي تمهيدا لإقامة شراكة (أورو- متوسطية) تضم عددا من الدول العربية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وبما أن إسبانيا دولة متوسطية ولها تاريخ مرتبط بحوض البحر الأبيض المتوسط وبالشرق الأوسط، فإن علاقاتها تاريخيا ترتبط مع العالم العربي والإسلامي ومع اليهود، لذا فإنها تعتبر نفسها أكثر شرقية من باقي الدول الأوروبية، وعلى هذه الأسس كانت إسبانيا في العديد من القضايا التي تمس الجانب العربي هي الأقرب من غيرها والأسرع في المبادرة. ويبدو جانب الصراع في العلاقات العربية الإسبانية جلياً في الوقت الممتد من هجمات الحادي عشر من سبتمبر، فإسبانيا تريد دوراً كبيراً ذا طموح يناسب ما حققته من قوة اقتصادية وصناعية. وكان هذا واضحاً جدا بعد هذا التاريخ وبروز ظاهرة الحرب على الإرهاب كظاهرة دولية تحركت فيها إسبانيا على حساب علاقاتها مع العالم العربي. وكان المحفِّز على هذا تركةُ الماضي السحيق من الحرب بين الشمال المسيحي والجنوب الإسلامي في آخر حقبة من حقبات الإسلام بإسبانيا. ومن كنف هذا الصراع، خرجت الحرب الباردة كمصطلح يعبر عن تلك الحرب ثم اُستخدم في الصراع الأيديولوجي ما بين الرأسمالية والشيوعية على يد الإنجليزي جورج أورويل، وأخيراً رجعت الحرب في منظور يميني متطرف، كما كانت، ولم تراع إسبانيا البعد الإنساني، وهي تبعث بقواتها إلى العراق تحت راية قاتل المسلمين في سابقة دولية تحمل التعصب الديني، رغم صعود ثقافة حوار الحضارات في إسبانيا. وتحاول إسبانيا إبراز دورها الدولي بالتحالف مع الولايات المتحدة كبريطانيا، مدعية بأنها تحمي أوروبا من الإرهاب العربي الإسلامي، كما لا يَخفى أن إسبانيا تحاول مزاحمة الدور الفرنسي والألماني في منطقة الشرق الأوسط، حيث تملك علاقات اقتصادية واستثمارية قوية مع دول عربية عديدة، وتتطلع إلى السوق والمال العربيين. وتتجلى السياسة المتضاربة لإسبانيا في مطالبتها بريطانيا باستقلال وإعادة جبل طارق إليها، وهي التي تحتل مدينتي سبتة ومليلية والصخور المغربية، بل إنها عملت على إنشاء سور يعزل المدينتين عن المملكة المغربية وقامت بعمليات استيطانية لتغيير السكان الأصليين. جدير بالذكر بأن تغير السياسة الإسبانية يتم عبر تغير شكل الحكومة من اليسار إلى اليمين السياسي، وأن قضية سبتة ومليلية والحدود البحرية وملف صيد الأسماك (وجبهة البوليساريو والصحراء المغربية) والخلفية التاريخية السلبية هي ملفات مهمة في العلاقات الإسبانية- المغربية، والتي يفترض أن تؤثر في باقي الدول العربية. ومن منطلق أن لدول الجوار علاقات تعاونية وصراعية مع الدول العربية، فإن أكثر دول الجوار صراعاً هي إسرائيل وأقلها إثيوبيا وأكثرها تضارباً إسبانيا وأقواها تغيراً تركيا من علاقات ضعيفة وبعيدة إلى علاقات قريبة فاعلة ومتعاونة مع الدول العربية، أما إيران فهي الدولة التي تبحث عن دور إقليمي كبير ومهم دوليّاً من خلال البعد الجغرافي والاقتصادي والأمني والسياسي في إطار إقليمي والذي يبرزها دولياً. ولعل أحدث دولة تجاور الوطن العربي ستكون "جنوب السودان" إذا انفصل.