على مدى الأسابيع القليلة الأخيرة انكب الخبراء والدارسون على تمحيص التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الروسي، فلاديمير بوتين، طيلة الفترة السابقة، علهم يقعون على أجوبة محتملة للغز محير في السياسة الروسية يساوي حله مليون دولار، هذا اللغز يقول: هل سيرشح بوتين نفسه لانتخابات الرئاسة لعام 2012 أم سيفسح المجال لرجله، ديمتري ميدفيديف، للترشح لولاية جديدة؟ الحقيقة أن بوتين لم يخلف وراءه أثراً يساعد على تعقب أفكاره، فهو أذكى من أن يفضح نفسه، لكنه مع ذلك أفصح علانية عن أجندته التي تباهى بأنها ترقى إلى خطة استراتيجية لمستقبل روسيا، وهي خطة جاءت في مجملها رداً على "المسحة التحديثية" التي أعلنها ميدفيديف والمتضمنة، من بين أشياء أخرى، إعادة ضبط العلاقات الروسية الأميركية، بحيث بدت ردود بوتين عليها بمثابة تفنيد للنقاط التي ركز عليها الرئيس في مسعاه التحديثي. وفي هذا الإطار تحدث ميدفيديف عن الاقتصاد الروسي واصفاً ما يتخبط فيه "بالتخلف المزمن"، وبأنه "بدائي" في اعتماده على "المواد الخام"، وفي تجاهله "لاحتياجات الشعب"... وهو ما يفسر حسب خبراء بارزين في الاقتصاد بدء الركود الاقتصادي في روسيا حتى قبل تأثير الأزمة الاقتصادية على سعر النفط، كما يفسر أيضاً تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي لروسيا في عام 2009 بنسبة7.9 في المئة. غير أن بوتين في رده، ناقض كل ذلك، معتبراً أن الاقتصاد الروسي يشهد "تقدماً مطرداً" وأنه "لا وجود لمشاكل كبرى"، وإن كان لم يخفِ تأثير الأزمة العالمية التي "لا علاقة للاقتصاد الروسي بها" لأنها جاءت "من خارج الحدود" على الاقتصاد الوطني، كما هو الحال بالنسبة لباقي الاقتصادات العالمية، لكن فقط لدرجة "محدودة"، إذ يظل الاقتصاد الروسي، كما يقول بوتين، "ماضياً على الطريق الصحيح". وفي تصريح آخر لميدفيديف ضمن أجندته التحديثية، أدان ما سماه "الفساد المزمن" الذي ينخر المؤسسات الروسية، وجعل من مكافحته شعاراً له طيلة فترته الرئاسية، لاسيما بعد أن تحول الفساد والابتزاز والممارسات غير القانونية التي تستهدف رجال الأعمال إلى خاصية تميز عهد بوتين وأحد المعوقات الهيكلية أمام التقدم الاقتصادي. وهي الممارسات التي تنتعش تحت القبضة الحديدية للدولة على وسائل الإعلام والمراقبة المفروضة على الصحف والمحطات التلفزيونية التي تعاني من الترهيب والمحاكمات الجائرة. لكن من جهته يرد بوتين قائلا إن الفساد، وإن كان موجوداً في روسيا، فإنه ليس ظاهرة قائمة بذاتها، ولا يختلف الأمر عما هو موجود في باقي البلدان التي تعاني من نفس الآفة، مضيفاً أنه رغم قدرة السلطات الروسية على وضع حد له، فإن ذلك سيتطلب "بحثاً مضنياً" للضرب على أيدي المفسدين. أما فيما يتعلق بالتركيبة العرقية لروسيا، فقد عبر ميدفيديف عن قلقه بشأن المسلمين الروس في شمال القوقاز الذي بدأ يخرج عن السيطرة بسبب تفشي الفقر والبطالة بين سكانه وسقوطه في أيدي الجماعات المتطرفة المروجة للعنف والإرهاب. فلا يكاد يمر يوم دون الإعلان عن مقتل مسؤول روسي، من الشرطة أو القضاء، في داغستان وإنجوشيا. هذا الواقع المضطرب دفع ميدفيديف إلى وصفه بأنه "أخطر مشكل سياسي داخلي تعاني منه البلاد"، بل إن الوفد الروسي إلى المجلس الأوروبي صوت لصالح قرار يدين انتهاكات حقوق الإنسان التي تعرفها الشيشان وسيطرة شخصيات بعينها على الحكم، مثل القائد الشيشاني "رمضان قاديروف" الذي اختاره بوتين لرئاسة الشيشان. فبمَ يرد بوتين على كل ذلك؟ إنه يرى بأن ما يجري في المناطق الروسية شمالي القوقاز "لا يرقى إلى مرتبة الإرهاب بالمعنى الحقيقي للكلمة"، بل مجرد صراع بين العشائر المختلفة لـ"إعادة توزيع الممتلكات"، مشيداً بالزعيم "قاديروف" باعتباره أكثر من مجرد "محارب كبير" بل هو "قائد اقتصادي ممتاز" و"رجل عظيم". ويشتكي ميدفيديف من أن الروس أصبحوا "عديمي الحيلة" تجاه "عشوائية" السلطات، كما يعانون من "غياب الحرية" و"احتقار" القانون، داعياً في هذا السياق "إلى ثقافة سياسية تكرس الحرية وتشجع على التفكير النقدي". هذا في الوقت الذي دافع فيه بوتين عن اعتداءات الشرطة على المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية، فإذا لم يحترم المحتجون القانون الروسي الذي يمنع التظاهر، يقول بوتين، فإنهم يستحقون "أن يُضربوا على رؤسهم بهراوات الشرطة". لكن ماذا عن مسألة ضبط العلاقات مع الولايات المتحدة، والتي تعهد بها ميدفيديف في ثلاث قمم جمعته بالرئيس أوباما؟ يقول بوتين في هذا الشأن إنه "يود حقاً" أن يؤمن بضبط العلاقات لو لم تكن الولايات المتحدة "منخرطة في إعادة تسليح" جورجيا، وهو التسليح نفسه الذي شجعها بداية على "الاعتداء" على أوسيتيا الجنوبية قبل عامين. هذا بالإضافة إلى النظام المضاد للصواريخ الذي تريد أميركا نشره في بعض الدول الأوروبية، ليتساءل في النهاية: "أين هي إعادة ضبط العلاقات؟". أما التساؤل الأهم فهو: ما الذي يستطيع ميدفيديف القيام به أمام ردود بوتين؟ وما هي الخيارات المطروحة أمامه؟ ربما يستطيع، مثلما فعل من قبله "نكيتا خروتشوف"، متابعة أجندته الإصلاحية "من داخل النظام"، لكنه على الأرجح سيجد نفسه، مثل خروتشوف، محاصراً من قبل المسؤولين الفاسدين والمقاومين للتغيير، ما سيفضي به إلى خروج مخزٍ من الحياة السياسية في 2012، موعد الانتخابات الرئاسية. لكنه يستطيع أيضاً اختيار طريق آخر مثلما فعل "ليونيد بريجنيف" الذي حكم بمباركة الطبقة المتنفذة في روسيا لما يناهز 18 عاماً غرقت خلالها البلاد أكثر في مستنقع الاضطراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهو المسار الذي سيكرر نفسه إذا ما رجع بوتين إلى الكرملين في انتخابات عام 2012 وأمضى فترتين رئاسيتين مدة كل واحدة منهما ست سنوات، حيث سيكون في تلك الفترة، قد حكم روسيا لمدة عشرين سنة متجاوزاً بريجنيف بسنتين، لكن مع الحفاظ على النتيجة نفسها.