نحن بصدد تأسيس أسطورة جديدة، تقول "بسقوط جدار برلين الذي لم يوقعه أحد"، والسبب حسب مروجي الأسطورة أنه لا أحد منا كان يعرف اللحظة نفسها التي سيتهاوى فيها الجدار ومعه منظومة بأكملها من الشمولية والقمع، ولأن كل ما جرى كان من طبائع الأمور، أو ربما لأن سلسلة الأحداث التي قادت إلى السقوط وما صاحبها من ظروف تاريخية، ساهمت في تبلورها، تبقى عصية على الفهم وغير قابلة للاستيعاب ليبقى السقوط في هذه الحالة أمراً عادياً إلى حد التفاهة. ورغم كل ما جرى مع تلك التحولات الكبرى بما فيها ثورة إسقاط الجدار التي سارت على خطى جميع الثورات الكبرى في التاريخ، ورغم القطيعة مع وتيرة الحياة اليومية الذي أحدثه سقوط الجدار والتغيير الجوهري في مواعيدنا، يتم التعامل مع الحدث وكأنه من البديهيات، وقد ساهم في ترسيخ الفكرة حالة الارتباك الفكري وعجز البعض عن تقديم تفسير تاريخي متماسك للأحداث التي قادت إلى الثورة وسقوط جدار برلين، ولأنه على غرار باقي الثورات تجد نفسها معلقة في التاريخ باعتبارها طفرة من طفرات الطبيعة التي تتمرد على السياق العادي للأمور وتخرج عن سيرورة التاريخ وعن خطيتها المستقيمة. وحتى عندما تبدت المعجزة أمام أعيننا شاخصة بكل ملامحها، ورأينا شعوب الدول الصغيرة في أوروبا الشرقية تنعتق وترفع النير الثقيل من على كاهلها وتعيد كتابة التاريخ وانتزاع مصيرها من بين براثن الغطرسة والظلم، رأى البعض أن الأمر كله عادي وبديهي. لكن أن يتمادى المراقب في خلاصته التسطيحية لحدث سقوط الاتحاد السوفييتي، وعدم إيلائه الأهمية التي يستحق، بل وإخراجه من حيز التفكير معللاً ذلك باستحالة الوقوع، فإن ذلك أمر يسيء للتاريخ. وبعبارة أخرى إن الزعم بأن العالم لم يكن مستعداً لاستيعاب الطابع المضطرب للأحداث التي صاحبت سقوط الاتحاد السوفييتي بكل ما كان يمثله من قوة، أو التفكير في أن مجرد قيام ثورة على هذا الصعيد لم يكن ممكناً، يجافي بل يناقض الحقيقة، وهو أيضاً يخالف تجارب الأشخاص، الذين عاشوا في خضم الأحداث واستطاعوا استشراف سقوط الاتحاد السوفييتي، إما من خلال معايشتهم الشخصية التي طبعتها القسوة والألم تحت نظام شمولي، أو من خلال التفكير والتأمل الذي مارسه بعض المفكرين، وخلصوا إلى أن النهاية المستحيلة هي بالفعل قادمة وعلى مرمى البصر. وفي هذا السياق أتذكر كُتاباً من "شالاموف" إلى "سولزينستين" تنبؤوا بانهيار الشيوعية، كما أتذكر هؤلاء الرجال والنساء المعارضين مثل "أندري أمالريك" الذي ألف عام 1970 كتاباً بعنوان واضح لا يقبل الجدل "هل سيعيش الاتحاد السوفييتي حتى 1984” ما يعني أن النهاية كانت محسومة ولم يبقَ سوى تدقيق التاريخ. ومازلت أذكر الدور الذي لعبه هؤلاء المثقفون والمعارضون الشجعان في تعبئة الغرب وشحذ همته للاستمرار في مكافحة الأنظمة الشمولية وفضح الخدعة التي مارسها الاتحاد السوفييتي، بل وبث الثقة ليس فقط في كشف الوجه القبيح للنظام الشمولي، وإنما أيضاً في إمكانية إسقاطه. وأستحضر هنا الكاتب "كورنيليوس كاستورياديس"، الذي اعتبر في كتابه الأخير أن بذور انهيار الاتحاد السوفييتي تكمن في ثناياه، متمثلة في توسيع الآلة العسكرية وتفشي أمراضها داخل الجسم السوفييتي مشبهاً ذلك بالسرطان الذي ينخر الذات من الداخل، والذي سينتهي به المطاف إلى القضاء عليه نهائياً. وأضيف أيضاً إلى ثلة المثقفين اسم "جون فرانسوا ريفيل"، الذي ما كانت لتزعجه في الأصل الإغراءات الشمولية أحياناً ضمن الأنظمة الديمقراطية لو لم يرَ بعينيه معاناة زملائه تحت النظام السوفييتي، بل إن المثقفين الذين اختاروا المداهنة ومسايرة الإمبراطورية ما كانوا ليختاروا الانتحار الأخلاقي والقيمي لو لم يعرفوا في قرارة أنفسهم أن النظام الشيوعي في طريقه إلى الزوال. أما الفيلسوف "ميشال فوكو" فقد كان يقول إن جميع التشكيلات والصيغ الخطابية والسياسية لا بد أن تلاقي الموت، كما كان لديها تاريخ وموعد مع الحياة، وأتذكر أيضاً البابا "يوحنا بولس الثاني"، الذي استدعى قصة ظهور مريم العذراء التي أعلنت موت الاتحاد السوفييتي وكل ما يرمز إليه، وهي رؤية شاهدها ثلاثة أطفال عام 1917 مبشراً بأن ساعة الحرية باتت وشيكة، وتحملني ذكرياتي إلى الزيارات المتعددة التي قمت بها إلى تشيكوسلوفاكيا وبولندا وألمانيا الشرقية والاتحاد السوفييتي وكيف أن الناس هناك كانوا آنذاك أقل انخداعاً بالأساطير السوفييتية، وأنها لم تعد تلهم شيئاً عدا الخوف والرعب، لا سيما بعد الجبن والتقاعس الذي لمسوه في "العالم الحر"، الذي باع قيمه من أجل سلام مستحيل. والحقيقة أننا أمام الاتحاد السوفييتي السابق وما كان يمثله كنا نخلط بين أمرين: الجبن والتقاعس، بين عدم رغبتنا في رؤية ما يجري وصم آذاننا عن الأصوات القادمة من الشرق وبين المعرفة الموشاة بالصمت، هذا التباين الانتهازي في المواقف تفسره الطريقة التي تعامل بها أمثال جيسكار ديستان مع شعوب أوروبا الشرقية عندما أوصدوا الأبواب في وجوههم، وأيضاً تاتشر وميتران اللذان بذلا كل ما يستطيعان لضمان عدم توحد الألمانيتين لحماية ما تبقى من النظام السابق، ولا ننسى أيضاً ذلك الموقف المتخاذل للعديد من المثقفين سواء في الولايات المتحدة، أو في أوروبا الذين لم يروا فيما يجري على الضفة أخرى ما يثير الانتباه وتغاضوا عن المفارقة الكبيرة التي تضع شعوب أوروبا الشرقية ضمن ثقافة وحضارة تختلف عنهم. لقد أخطأ كل من اعتقد بأن صمت الناس وتهامسهم في الخفاء كان نوعاً من القبول والرضا، والحال أنهم كانوا ينتظرون فقط الفرصة المناسبة وشرارة الانطلاق ليجهروا أمام الإمبراطور، أو بمعنى أصح أمام الديكتاتورية، بأنه عار ومن دون ملابس. عندما نستعرض هذا الخلط بين الصمت والإذعان، واستبعاد السقوط، ثم عند حدوثه الاستخفاف بالتضحيات والمآسي التي دفعت في اتجاهه، إننا عندما نقصي الدور المحوري للمعارضين والمثقفين الذين كتبوا بدمائهم على صفحات التاريخ وتنبؤوا بانهيار الديكتاتورية نتجاوز ارتكاب الخطأ إلى اقتراف الذنب في حق التاريخ، والخطأ هو ليس في أسطورة السقوط، بل في بث الأكاذيب وتزييف الواقع الذي بدوره يُقصي التضحيات ويلغي التاريخ، وهي طريقة لا أخلاقية في محو عقود من الصراع والآلام مهدت الطريق لانتهاء عصر الشمولية في أوروبا الشرقية، وإذ أشعر بالغثيان عندما أسمع الكليشيهات نفسها عن انهيار الاتحاد السوفييتي والتعامل معه كبديهة، أو استبعاد حدوثه تماماً، فإني أيضاً أنحني إجلالا وتقديراً لمن رأوا سقوطه في الأفق وصارعوا من أجل تقريب ساعته. ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"