ما هي السياسة الخارجية الملائمة لقوة عظمى متقلصة الحجم؟ في السنوات المقبلة، سيتعين على الولايات المتحدة اتخاذ خطوات جذرية للحد من عجزها المالي الآخذ في التزايد. فبصرف النظر عما يعدنا ساستنا به، فإن ذلك العجز المتزايد سوف يضطرنا - حتما - لخفض نفقاتنا، بما في ذلك تلك الخاصة بالضمان الاجتماعي، والعناية الطبية (ميديكير) والدفاع القومي، وهي المواد الأكبر على الإطلاق في أي ميزانية فيدرالية. وقد بدأ أوباما مقترحاته لتقليص الميزانية، باقتراح خفض ميزانية البنتاجون بمقدار 78 مليار دولار خلال العشر سنوات القادمة، وهناك احتمال لأن يقترح تخفيض المزيد- بحسب الخبراء. بيد أن تقليص الميزانية الدفاعية، والالتزامات الدولية الأقل طموحاً، لن يكونا بالضرورة نذيراً بنهاية العهد الأميركي، أوالعهد الذي كانت أميركا فيه هي القوة الأعظم في العالم، ولكنهما سيكونان بالتأكيد بمثابة جرس إنذار، وتنبيه، يدعونا لأن نكون أكثر حرصاً وتدقيقاً، بشأن المكان الذي سننشر قواتنا (ومواردنا) فيه، والكيفية التي ننجز بها ذلك، وأن نميز بين المهام الدبلوماسية، ومنظومات الأسلحة، والمبادرات الدبلوماسية ذات الأهمية الجوهرية الأمن ورخاء الشعب الأميركي، وتلك التي لا تزيد عن كونها" مرغوبة" فقط، وبالتالي من النوع" القابل للاستغناء عنه" خصوصاً في فترات العسر المالي، مثل تلك التي نمر بها في الوقت الراهن. وفيما يتعلق بتحديد الأولويات التي سنحافظ عليها في مجال السياسة الخارجية، وتلك التي سنتخلى عنها، يجب على الولايات المتحدة أن تتبع قاعدة بسيطة هي: أن التزاماتنا الأقدم زمنيا - أي تلك التي كنا نضطلع بها إبان الحرب الباردة - أهم من الالتزامات التي تبنيانها خلال العقدين الأخيرين. وتلك الالتزامات الأقدم تشمل الضمانات الأمنية المقدمة لشركائنا، ووجودنا العسكري في الشرق الأوسط، وشرق آسيا، وأوروبا. أما الالتزامات الأحدث عهداً، والقابلة للتوسع، والأكثر تكلفة، والأطول عهدا، فتشمل تجارب بناء الأمم من النوع الذي مارسناه في الصومال، وهايتي، والبوسنة، وكوسوفو، والعراق وأفغانستان (الأخيرتان هما الأكثر تكلفة على الإطلاق). والوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط مهم بالطبع، لأن المنطقة، كما هو معروف، تحتوى على معظم احتياطات النفط العالمي.. وهي أيضاً منطقة ستجد الولايات المتحدة نفسها مطالبة ببذل المزيد من الجهد - لا تقليص هذا الجهد -خلال السنوات المقبلة. فدولة مثل مصر، ظلت لفترة طويلة من الزمن ركيزة أساسية من ركائز السياسة الأميركية في المنطقة، ومما لا شك فيه أن حالة عدم اليقين السائدة فيها في عصر ما بعد مبارك، سوف تعني أن المساعدات السنوية التي نقدمها لها والبالغة 1.6 مليار دولار يجب أن تستمر بل وتزيد، لأنها ستمنح واشنطن نفوذاً لدى المؤسسة التي سيكون لها دور كبير في تحديد المستقبل المصري، وهي مؤسسة الجيش. والتهديد المباشر للولايات المتحدة، لا يأتي من عدم الاستقرار في مصر وإنما من طموح بعض القوى الإقليمية، الساعية إلى الهيمنة على المنطقة، وهو ما سيمنحه نفوذا على احتياطيات النفط ذي الأهمية القصوى للعالم الصناعي، مما يعني أن الأمر سيحتاج بالتالي لوجود أميركي لضمان تدفق هذه المادة المهمة للأسواق العالمية. في مقابل ذلك، ليس هناك احتمال مباشر للحرب في أوروبا أو شرق آسيا: فمن المعروف أن الولايات المتحدة تساهم في مهام حفظ السلام في المنطقتين من خلال العمل كعازل بين القوى الإقليمية المتصارعة في المنطقتين، التي وإن كانت لا تستعد في الوقت الراهن لخوض الحرب ضد بعضها بعضا، إلا أنها لا تثق ببعضها بعضا تماماً، مع ذلك. وفي أوروبا، سيوفر الوجود الأميركي ضمانة، بانه في حالة ما إذا أصبحت روسيا أكثر عدوانية فإن الولايات المتحدة سوف تكون جاهزة للتدخل، وردعها، تماما كما كانت تفعل أيام الحرب الباردة. وفي شرق آسيا سوف يؤدي الانتشار الأميركي هناك إلى طمأنة اليابان والدول الأخرى على أنها إذا ما أرادت مواجهة الصين فإنها ـ الولايات المتحدة ـ ستقف بجانبها.ومن ناحية أخرى فإن هذا الانتشار سيطمئن الصين بأن اليابان التي كانت تحتلها في النصف الأول من القرن العشرين ـ لن تشكل تهديدا لها. في نفس الوقت الذي سنقوم فيه بإعادة التركيز على أوروبا، وشرق آسيا، والشرق الأوسط، يجب علينا أيضا أن ندرك أن نوعية العمليات التي كنا نقوم بها في سني الحرب الباردة، أو حتى تلك التي قمنا بها منذ نهايتها وحتى الآن سوف يكون من الصعب للغاية تنفيذها في زمن العسر المالي الذي نعيش فيه. فتلك العمليات بدءاً من الصومال، ومروراً بهايتي، والبلقان، ونهاية بالعراق وأفغانستان، كانت تنتهي بنتيجة واحدة تقريباً: تورط الولايات المتحدة في عملية بناء أمم مرهقة، وطويلة الأمد، ومكلفة، أو في مجهود من أجل تأسيس مؤسسات مستقرة نسبية، وعاملة، وديمقراطية- إذا ما أمكن - في الدول الأجنبية. وهذه العمليات لم تحقق سوى نجاح محدود، وهو ما كان يرجع لحد كبير إلى أن المهام ذاتها كانت شاقة. فالمؤسسات الديمقراطية لا يمكن أن تتأسس بسرعة وسهولة، كما لا يمكن استيرادها جاهزة من الخارج. صحيح أن الانتخابات كعملية إجرائية تعد سهلة نسبياً، وقادرة على اجتذاب كاميرات الإعلام، إلا أن ليست سوى جزء واحد فقط من العملية الديمقراطية التي تتطلب إلى جانب ذلك سيادة حكم القانون وحماية حقوق الأقليات، وهي من الأمور صعبة التحقق وباهظة التكلفة في آن. والخلاصة التي نخرج بها من كل ما تقدم هي، أن الولايات المتحدة سوف تستمر خلال الفترة المقبلة في تبني نفس سياسات الحرب الباردة وسياسات ما بعد تلك الحرب أيضاً. بيد أن الشيء الذي يؤسف له هو أن هذا العالم (الذي كان موجوداً في ذينك الفترتين)، لن يكون قائماً خلال العقد القادم وما بعده، ونحن نواصل كفاحنا من أجل تخفيف العبء الذي نضطلع به من أجل الوفاء بالتزاماتنا القومية. ------- مايكل ماندلباوم أستاذ السياسة الخارجية الأميركية في مدرسة "جونز هوبكنز" للدراسات الدولية المتقدمة ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم.سي.تي إنترناشيونال"