اختلقت إدارة أوباما مسوغاً لافتاً وعجيباً لتبرير مشاركتها في الحرب على ليبيا دون تأمين موافقة الكونجرس المطلوبة بموجب الدستور وقانون صلاحيات الحرب للعام 1973، إذ رغم ما تقوم به الطائرات الأميركية من عمليات إقلاع ودخول للمجال الجوي الليبي ورصد للأهداف وقصفها بالقنابل التي تخلف بدورها ضحايا وتدميراً في المنشئات، إلا أن أوباما يصر على أنها ليست حرباً، والسبب الذي تسوقه الإدارة هو ما ورد في تقرير صادر عن البيت الأبيض من 32 صفحة في الأسبوع الماضي يقول إن "العمليات الأميركية في ليبيا لا تشمل قتالًا متواصلاً، أو تبادلًا لإطلاق النار مع قوات معادية، كما أنها لا تشمل انخراط القوات الأميركية في الميدان، ولا يترتب عليها أي جرحى في صفوفنا أو خطر على قواتنا... هذا بالإضافة إلى انتفاء أي احتمال لتصعيد النزاع والوصول إلى ما قد يهدد جنودنا". وبعبارة أخرى، تميل موازين القوة في هذه المواجهة لصالح الولايات المتحدة بشكل واضح إلى درجة أن القوات الأميركية في مأمن من أي خطر محتمل، وهو ما يُفهم منه أن الحرب لا تكون حرباً إلا إذا كان الأميركيون يقتلون، أما عندما يموت الليبيون فقط تتحول المسألة إلى شيء آخر عدا الحرب، يبدو أننا لم نعثر لها على اسم بعد، والحقيقة أننا إزاء منطق غريب للغاية وطريقة ملتوية في التفكير تقوم بدورها على معطى فريد من نوعه مفاده أنه لأول مرة في التاريخ بات في إمكان الدول شن الحروب دون التعرض حتى لخدش صغير. وقد رأينا ذلك عام 1999 أثناء قصف قوات حلف شمال الأطلسي لصربيا، التي لم تسقط فيها سوى طائرة أميركية واحدة تمكن قائدها من النجاة لاحقاً. ولعل النموذج الدال الذي يلخص هذا النوع من الحروب هو الطائرات الأميركية من دون طيار، التي تحولت إلى رمز للإدارة الحالية، بحيث يستطيع مشغلوها الاسترخاء في مقرات عملهم بالولايات المتحدة، فيما الطائرات التي أرسلوها تحلق فوق أفغانستان وباكستان واليمن وليبيا، تبحث عن الأهداف لتمطرها بالقنابل من السماء، وهكذا أصبحت الحرب خالية من الضحايا لمن يشنها، لأنه لا أحد من جنوده متواجد على الأرض، أو حتى قريب من ساحة المعركة، وبدوره يقودنا هذا المنطق القائم على حرب تُدار من بعيد وخالية من الضحايا إلى استنتاج غريب خرج به أوباما، إذ خلافاً لما هو معروف من أن أي هجوم على بلد يُعد إعلاناً للحرب ضده مهما كانت الظروف، تدعي إدارة أوباما اليوم أن الأمر ليس كذلك إذا كان الخصم أضعف من أن يرد. والمفارقة أن مثل هذا التفكير يعطي دافعاً جديداً لأعداء أميركا حول العالم للسعي إلى ضربها، لأنه فقط بهذه الطريقة ينطبق عليهم مسمى الحرب وما يحمله من حماية دولية. ورغم وضوح قانون صلاحيات الحرب في أنه لا يخول للرئيس البدء بالعمليات العسكرية ضد بلد ما إلا في حالة "الطوارئ الوطنية الناجمة عن شن هجوم على الأراضي الأميركية، أو ممتلكاتها، أو قواتها المسلحة"، فإن أوباما -مع ذلك- برر حربه على ليبيا بذات الدافع الذي يحرمه من شنها، وهو عدم تعرض القوات الأميركية الغازية للخطر، ناهيك عن أرض الوطن البعيد كل البعد عن المعركة، والأمر هنا شبيه بموقف إدارة بوش حول التعذيب. رغم الاختلاف بين مبررات التعذيب هناك ودوافع الحرب هنا، فقد أراد بوش استثناء أعمال التعذيب التي رخص لها من مسمى التعذيب، لذا أمر مستشاريه القانونيين بإيجاد مخارج لا تعتبر الإيهام بالإغراق مثلاً نوعاً من التعذيب، واختار لها عبارة "تقنيات الاستنطاق المتقدمة". وبالمثل لا يريد أوباما لهذه الحرب أن تسمى حرباً، لاسيما وأنها حرب لا يسقط فيها قتلى أميركيون، فقام بهجوم ليس فقط على ليبيا، بل على كلمة "الحرب" نفسها، وبموجب هذا التلاعب بالحقل الدلالي للغة تفقد الكلمات معانيها الحقيقية وتنفصل عما يفهمه الناس منها لتثير مجموعة من النقاشات حول تأويل الكلمات تفرغها في النهاية من معناها، فيتحول التعذيب إلى غير التعذيب وتصير الحرب شيئاً آخر عدا ما هو موجود في القواميس. وللتحايل على اللغة عادة ما يتم اللجوء إلى استخدام عبارات مخففة مثلما فعل بوش ومثلما يفعل أوباما اليوم بعدما استبدل كلمة الحرب، والتي هي فعلاً ما يجري في ليبيا بالعمليات العسكرية المحدودة، وهو ما أوضحه المستشار القانوني لوزارة الخارجية الأميركية "هارولد كوه" في مقابلة أجرتها معه صحيفة "نيويورك تايمز"، فالرجل وإنْ نأى بنفسه عن النقاشات التي سعت إلى الطعن في دستورية قانون صلاحيات الحرب، ولم يشأ الدخول في نقاشات جانبية حول سلطات الرئيس في إعلان الحرب، إلا أنه اختار التلاعب باللغة وتحوير معانيها عندما قال: "نحن لا نعتبر أن قانون صلاحية الحرب غير دستوري، ولا نرفض الاستشارة مع الكونجرس، كل ما نقوله إن الطبيعة المحدودة لعملياتنا في ليبيا، ليس هو ذلك النوع من الأعمال العدائية التي ينص عليها القانون". واللافت أنه من أجل المضي قدماً في حرب تفتقد لترخيص الكونجرس كان على إدارة أوباما الطعن إما في القانون، أو اللغة. جونثان شيل ____________________________ باحث بمؤسسة "ذي نايشن" ومحاضر بجامعة "يل" الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"