مع اقتراب موعد استكمال انسحاب القوات الأميركية من العراق، من المهم أن نذكر أنفسنا بكيفية دخولنا تلك الحرب الطويلة والمميتة أصلًا، ونعترف بأن هذه الحرب ما زالت أبعد ما تكون عن الانتهاء، ومحاسبة الأشخاص المسؤولين عن الفظاعات التي تسببوا فيها خلال الثماني سنوات الماضية. وبكلمة واحدة، يمكن القول إن الطريق إلى بغداد إنما عُبد بـ"الأكاذيب"، ولا أقصد هنا فقط تخيلات "أسلحة الدمار الشامل" أو "علاقة صدام بالقاعدة" التي استعملتها إدارة بوش لتبرير دعوتها للحرب. ففي الحالتين، عمل البيت الأبيض وموظفوه عبر الحكومة ساعات عمل إضافية معتمدين على التزويق والتحريف، بل والفبركة الخالصة للإتيان بحجج مسوغة للحرب. ولا حاجة للتذكير بأن ما فعلوه من أجل فبركة تلك الأكاذيب وتسويقها كان خاطئاً من الناحيتين الأخلاقية والقانونية معاً. ولعل الأكثر مكراً من ذلك كله هي الأكاذيب المغرية التي استعملت في الطريق إلى الحرب، بهدف ضمان تأييد الرأي العام ووسائل الإعلام بشكل خاص. ذلك أن تلك الأكاذيب هي التي دفعت العديد من الأميركيين، ومنهم جزء كبير من وسائل الإعلام، إلى أن يخلصوا إلى أن الحرب ستكون بمثابة "نزهة"، حسب تعبير أحد المدافعين عن سياسات بوش. وعندما كانوا يتعرضون للضغط من قبل الكونجرس أو الجمهور من أجل تقديم أجوبة، كان مسؤولو الإدارة وأنصارهم يجادلون بأن الحرب لن تدوم سوى أسبوع؛ وبأنها ستتطلب أقل من 100 ألف جندي أميركي سيتعين عليهم البقاء في العراق لمدة ستة أشهر فقط؛ وبأن الجهد برمته لن يكلف الخزينة الأميركية سوى ملياري دولار؛ وبأن الأميركيين سيرحب بهم في بغداد كمحررين وسيُستقبلون بالزهور في الشوارع؛ وبأن العراق بعد رحيل الديكتاتور سيصبح "منارة للديمقراطية" تضيء بنورها كل منطقة الشرق الأوسط. ونظراً لـ"التهديد" المبالغ فيه وإغراء "السهولة النسبية" المفترضة للمهمة ونتيجتها المتوقعة، ذهبت أميركا إلى الحرب في العراق. أما الأشخاص الذين حاولوا تذكير وزير الخارجية السابق كولن باول بعقيدته، "عقيدة باول"، أو الذين شككوا في الحكمة من وراء الذهاب إلى الحرب في بلد لا نعرف عن تاريخه وثقافته وشعبه سوى أقل القليل، فقد تم إخراسهم؛ حيث لم يكن أحد في الحكومة، وقتئذ، يرغب في سماع شيء عن "عواقب غير مقصودة" أو توقعات بشيء غير إيجابي. وبعد ثماني سنوات، ها نحن نترك العراق بعد حرب حصيلتها ثقيلة: مقتل آلاف الأميركيين، وإزهاق أرواح مئات الآلاف من العراقيين، وذهاب الملايين إلى المنفى، وإنفاق تريليون دولار. وعلاوة على ذلك، يمكن وصف العملية السياسية الآن في العراق بالهشة، في أفضل الأحوال، حيث ما زال البلد عبارة عن برميل بارود طائفي/ اثني يمكن أن ينفجر في أي لحظة، مع ما ينطوي عليه ذلك من خطر جر المنطقة برمتها إلى حرب أوسع. وإلى كل هذا يضاف الضرر الذي لحق بمكانة أميركا في المنطقة والعالم نتيجة مغامرة الحرب وتجاوزاتها وانتهاكاتها. صحيح أن القوات الأميركية سترحل، ولكن ندوب هذه الحرب وجروحها المفتوحة ستبقى. ولابد من تذكر كل هذا لأن "أخطاء الماضي" لم يتم الاعتراف بها بعد، مثلما لم تتم محاسبة الأشخاص الذين ارتكبوها. وعلى القدر نفسه من الأهمية هناك دروس كان ينبغي علينا أن نتعلمها من عمليات الفبركة والكوارث التي نتجت عن تجاهل الواقع في حرب العراق. ولكن عند الاستماع إلى الخطاب الساخن جدّاً الذي يسود اليوم النقاشات السياسية الأميركية حول ما ينبغي فعله لمواجهة إيران وسوريا، يبدو أنه لم تتم الاستفادة من تلك الدروس بعد. ذلك أن الأشخاص الذين يدعون إلى رد عسكري أميركي في البلدين كثيراً ما يضربون صفحاً عن عواقب مثل هذه الأعمال. وفي وقت تتوزع فيه المجموعة نفسها التي كذبت وجرتنا إلى ثماني سنوات من الحرب الكارثية في العراق بين المرشحين الجمهوريين للانتخابات الرئاسية، حيث يعملون لديهم كمستشارين في شؤون السياسة الخارجية أو الأمن القومي، يمكن الاستماع إلى حججهم ومقولاتهم الخطيرة من جديد. فعندما ينتقدون الرئيس لأنه لم يتخذ موقفاً شرساً بما يكفي في قيادة الجهود ضد النظام القمعي في سوريا، مقترحين عملًا عسكريّاً، أو عندما يشيرون إلى أن على الولايات المتحدة أن تدعم ضربة عسكرية إسرائيلية ضد إيران (أو أننا ينبغي أن نقوم بها بأنفسنا)، فكما لو أن شيئاً لم يُستفد من كارثة الماضي القريب. وأحد الأسباب الرئيسية لهذه الحالة المؤسفة هو غياب المحاسبة. فلأننا لا نوبخ، ولن نوبخ على ما يبدو، الأشخاص الذين برروا التعذيب، وفبركوا مبررات للحرب في العراق، وأرسلوا مئات الآلاف من الشبان والشابات إلى بلد لم نكن نعرفه من أجل الانخراط في نزاع لا نهاية مرئية له، فإن الأشخاص أنفسهم ما زالوا يلوثون أجواء النقاش السياسي حتى اليوم. فمن مكاتبهم الوثيرة بالجامعات و"مراكز البحوث والدراسات" وكمستشارين لمرشحين لمناصب عليا، يُنظر إلى هؤلاء الأشخاص كـ"خبراء" يدعون إلى مزيد من الحروب التي لا تؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى، في وقت ما زالت فيه الفوضى التي خلقوها لم يتم احتواؤها بعد. ويبدو لنا الأمر منطقيّاً ومعقولًا عندما نسمع محتجي الربيع العربي في تونس ومصر يطالبون بمحاسبة الأشخاص الذين تورطوا في جرائم الحكومات السابقة، أو على الأقل بإقصائهم عن أي أدوار قيادية مستقبلية. وهو أمر غير معارض للديمقراطية وليس جهداً لـ"استئصال" وإقصاء من لديهم وجهات نظر مختلفة، مثلما قد يقول البعض. بل إن هذا يمثل دعوة لنا في أميركا لتطبيق مبادئ ديمقراطية خالصة مثل الشفافية والمحاسبة على حياتنا السياسية. فالأشخاص الذين خانوا ثقة الجمهور وكذبوا علينا لتبرير دخول حرب حصدت كثيراً من الأرواح وكلفتنا جميعاً ثمناً غاليّاً ينبغي أن يحاسَبوا على ما فعلوه لأن تركهم ينجون بجلودهم أمر خاطئ وخطير على أقل تقدير.