ليست القراءة عملية عشوائية، بل هي عملية منتجة، أو هكذا يجب أن تكون. ويسعى هذا المقال إلى إلقاء الضوء على جانب مهم من جوانب عملية القراءة، ألا وهو القراءة المنتجة وكيفية تحقيقها. فما المقصود – إذن - بالقراءة المنتجة؟ وما السبل الكفيلة بتحقيقها؟ المقصود بالقراءة المنتجة في هذا السياق هي تلك القراءة التي تحدث أثراً إيجابياً في وعي الفرد/القارئ. بحسبان أن هذه القراءة عملية أو فعل يسعى القارئ من خلاله إلى فهم أو تفسير ظواهر الحياة أو العالم الذي يعيش فيه. على اختلاف هذه الظواهر وتنوعها، ومنها اتسع نطاق هذه الظواهر أو ضاق. فقد تتصل هذه الظواهر بالدائرة المباشرة للفرد، وتمس حياته مساً مباشراً، كما يمكن أن تتصل بالتحولات التي تجري في العالم الواسع الذي يعيش فيه الفرد. وفي كلتا الحالتين يسعى الفرد إلى أن يجد في القراءة سبيلاً لفهم هذه المشكلات والتوصل إلى طرق مبتكرة للتعامل معها. ولا شك أن وعي الإنسان بهذه المشكلات، وطرق التعامل معها يختلف اختلافاً نوعياً بعد عملية القراءة. ذلك لأن عملية القراءة تسهم في بناء وعي الفرد بطريقة إيجابية. بفضل ما تحققه من تراكم معرفي يزيد من قدرة الفرد على اكتشاف الذات واكتشاف الآخر. لكن ما السبيل أو السبل الكفيلة بتحقيق غاية القراءة المنتجة؟ أتصور أن تحقيق هذه الغاية مرهون بمجموعة من الشروط التي ينبغي أن تتوافر في عملية القراءة ذاتها، وتتمثل أول هذه الشروط في أن تكون عملية القراءة ذات طبيعة تراكمية، تتسم بالاستمرارية والاطراد. حيث يجب ألا تخضع للصدفة أو العشوائية، بل يجب أن تكون عملية منظمة، تحتل جانباً مهماً في حياة الفرد، مهما كانت مشاغله، ومهما كانت ضغوط الحياة التي يواجهها. وتحتل هذه السمة - سمة التراكمية - أهمية خاصة بوصفها أحد السبل المهمة لتحقيق القراءة المنتجة، بما تساهم به في بناء وعي الفرد وزيادة رصيده الفكري والمعرفي بما يمكنه من فهم وتفسير كل ما يحيط به من ظواهر. ولا نبالغ إذا قلنا إن سمة التراكمية لا تساهم فقط في الارتقاء بوعي الإنسان، بل إنها تساهم - بالقدر نفسه - في بناء وتطوير نظريات العلم والمعرفة في مختلف صنوف التخصصات العلمية، على تعددها وتنوعها، سواء كانت علوماً إنسانية أو علوماً طبيعية. حيث يضيف، أو يعدل ، أو يطور، أو يغير اللاحق من السابق . لنتأمل مثلاً التطور أو التغير الذي حدث للكثير من النظريات العلمية خلال السنوات الأخيرة، وما ترتب على ذلك من اكتشافات علمية، والتوصل إلى حقائق علمية ومعرفية جديدة. فهل كان ذلك ممكناً لولا جهود العلماء ومثابرتهم في قراءة وفهم جهود السابقين عليهم ومحاولة تجاوزها، سواء بالتعديل أو التطوير أو الحذف أو الإضافة؟ وفي كل الأحوال تمثل عملية القراءة، وما يترتب عليها من فهم وتفكير، وقدرة على الاستنتاج والنقد، أحد السبل المهمة لتحقيق كل هذه الغايات. وتتلازم خاصية التراكمية التي تميز عملية القراءة بخاصية أخرى تكاد ترتبط بها ارتباطاً عضوياً، ألا وهي الطابع النقدي لعملية القراءة، أو ما يسمى بــ "القراءة الناقدة "، بل إن الطابع النقدي لعملية القراءة هو الذي يفسح مجالاً لعملية التعديل والتطوير والتغير الذي يحدث في وعي القاري –ويحدث بالقدر نفسه داخل نظريات العلم، إذ كيف يمكن للفرد أن يعدل، أو يغير، أو يطور من وعيه تجاه ما يواجهه من مشكلات في الواقع الذي يعيش فيه. وكيف يمكن للعالم أو الباحث أن يغير أو يعدل أو يطور في نظريات العلم الذي ينتمي إليه إلا إذا استطاع – كل منهما - أن يُعمل عقله بشكل نقدي في كل ما يقرأ. ولا يصبح مجرد مستقبل أو متلق سلبي لما يقرأ. إن القراءة الناقدة - من ثم - تفضي إلى تكوين الوعي النقدي الذي يسهم بدوره في صقل وعي الفرد، وفي تكوين رؤية للعالم تجعله قادراً على النفاذ إلى عمق الواقع الذي يعيش فيه، ويكون قادراً على التعبير عن آماله وطموحاته، سواء ما اتصل منها بمحيطه الذاتي، أو محيطه المجتمعي، أو محيطه العالمي أو الكوني، وذلك بحكم الدور الذي تقوم به القراءة المنتجة في تنمية وتخصيب خيال القارئ. ذلك الخيال الذي يجعله قادراً على القبض على كل ما هو جوهري وأصيل في كل ما يحيط به. أوليس التأمل هو الذي قاد "نيوتن" إلى اكتشاف قانون الجاذبية؟ ولما نذهب بعيداً؟ أوليس التأمل، أو قراءة صفحة السماء ومواقع النجوم، وكذلك تأمل أو قراءة أفق الصحراء هو الذي قاد أسلافنا العظماء إلى معرفة دروب ومسالك البر والبحر؟ على الرغم من أن جلهم لم يكن يعرف القراءة والكتابة؟ وهذا ما يجعلنا نقول إن كل إنسان هو إنسان قارئ ومتأمل بالضرورة، حتى وإن لم يكن يعرف أبجديات القراءة. حيث يصبح العالم الذي يعيش فيه الفرد هو النص المقروء. ويغدو التأمل سبيلاً للاستنتاج والاستنباط والفهم والتفسير. لكن هل ثمة طريقة واحدة للقراءة؟ وهل تتشابه العادات المرتبطة بالقراءة لدى مختلف القراء؟ وما الذي يحكم عملية اختيار المادة المقروءة ؟ يمكن القول إنه إذا كانت القراءة غاية يسعى إليها كل فرد مسكون بحب المعرفة والسعي إليها، فليس ثمة طريق واحد لتحقيق هذه الغاية. أي لا توجد طريقة واحدة للقراءة، بل تتعدد طرق القراءة بتعدد ميول ورغبات القراء أنفسهم، وأن هذه الميول والرغبات محكومة بالعديد من العوامل التي تتداخل فيها العوامل الذاتية والعوامل الموضوعية. وتتمثل العوامل الذاتية في ميول الفرد واهتماماته المعرفية الذاتية أو الشخصية. ولا شك أن هذه العوامل الذاتية هي وليدة المناخ الاجتماعي والثقافي الذي يغذي في الفرد حبه للقراءة. وتتمثل العوامل الموضوعية في الموقع الذي يحتله الفرد على خريطة المجتمع الفكرية والثقافية. وما يترتب على هذا الموقع من انتماء الفرد أو تخصصه في أحد فروع المعرفة العلمية. وما يفرضه هذا التخصص من ضرورة اطلاع الفرد على أحدث منجزات العلم في التخصص الذي ينتمي إليه. فإذا افترضنا أن هذا الفرد متخصص في العلوم الطبيعية (كالطب أو الهندسة مثلاً) فسوف يقبل على قراءة نوعية من الكتب تختلف عن تلك التي يقبل عليها فرد آخر متخصص في فرع من فروع العلوم الإنسانية. لكن ينبغي التأكيد على أن القراءة عملية عابرة للحدود التي تفرضها العوامل الذاتية والعوامل الموضوعية، كما أنها عمليه عابرة للتخصصات العلمية. وفي كل الأحوال، فإن عملية القراءة تعطي للقارئ دوراً مركزياً في إنتاج المعنى من قلب النص المقروء أياً كانت طبيعة هذا النص. ويستلزم إنتاج هذا المعنى قدراً من التأويل، فما طبيعة العلاقة بين القراءة والتأويل؟ ليكن ذلك موضوع المقال القادم بإذن الله تعالى. د . شما بنت محمد بن خالد آل نهيان