إن بعض المحن منح. وإن التحديات الكبرى تخلق إنجازات كبرى، لأن الدول الأصيلة ذات العروق الممتدة تمتلك من الصلابة والتحدي أن تتغلب على ما تواجه من تحديات وأن تحول التحديات إلى فرص، والفرص إلى إنجازات. ولقد وهب الله عز وجل الإمارات القيادة الرشيدة والشعب المؤمن بقدراته وقياداته وزاد عليها المولى بمنحه إياها الهبات والموارد، التي تم استخدامها لصالح المواطن، بل ولصالح الإنسانية كلها. فلقد مرت الإمارات منذ عام 1971 بتحديات كبيرة استطاع خلالها أن يثبت المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أن الإمارات ستكون دولة واعدة ذات ثقل وتأثير على مجريات الأمور الإقليمية والدولية، وبات من اللحظة الأولى أن سياسته الحكيمة لا تعمل بسياسة رد الفعل إلا عندما يحتاج الأمر إلى ذلك، وما دون ذلك كانت الرؤية المستقبلية الثاقبة هي المحرك الرئيسي لسياسة الإمارات الداخلية والخارجية على نحو مكنها من نيل مكانة مرموقة بين دول العالم. وعلى سبيل التذكر، وخشية ألا ننسى، تعامل رحمه الله بحنكة سياسية عالية مع قضية جزر الإمارات الثلاث التي تحتلها إيران حتى مكنه هذا من الحصول على اعتراف دبلوماسي سريع من قبل إيران والإعلان عن إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين في أكتوبر 1972. وفى الوقت ذاته تعاملت الإمارات بحذر "مبرر" من عدم الميل وراء اقتراح الشاه في عام 1975 لإنشاء حلف أمني مع دول الخليج الصغيرة في خطوة عكست كياسة المغفور له الشيخ زايد. كما استطاع الشيخ زايد رحمه الله التغلب على مشكلة أخرى واجهت الإمارات الحديثة مع المملكة العربية السعودية حيث وقع الشيخ زايد والملك فيصل اتفاقية نهائية لتسوية النزاع الحدودي بين البلدين مكن بعدها من قيام علاقات متميزة مع المملكة العربية السعودية الشقيقة كدولة رائدة في العالمين العربي والإسلامي. ومرت الإمارات بفترات أخرى عصيبة عندما واجهت جارتها لمشكلات وأزمات كان من الممكن أن تمتد آثارها السيئة عليها، مثل مشكلة "جبهة تحرير ظفار"، والتعامل مع الاتحاد السوفييتي السابق والقوى الدولية المختلفة، إلا أن الدبلوماسية الإماراتية، ومن خلال الشيخ زايد رحمه الله استطاعت أن تتغلب على تلك العواصف وهذه الحركات إلى أن تغيرت الأولويات على الساحة الإقليمية والدولية وخرجت الإمارات من كل هذا أفضل وأقوى. كما تعامل المغفور له بحنكة سياسية عالية مع التعاون الأمني مع الدولة الكبرى والتحول من مبدأ "نيكسون" إلى مبدأ "كارتر" وفقاً للتحولات الأمنية والسياسية في المنطقة، ولقد ذكر المغفور له بإذن الله تعالى أن الإنسان عندما يحتاج إلى بيت فإنه يقوم ببناء هذا البيت، وإذا احتاج إلى بيت مكيف فإنه يقوم بتجهيز هذا البيت المكيف وفقاً لاحتياجاته في إشارة إلى المرونة السياسية وتكيف المواقف وفق المقتضيات والمتغيرات الدولية. وكان المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان يؤكد على أن من يملك الثروة يظل مطمع الطامعين، ومن الصعب أن تعرف من أين يأتيك هذا الطامع، فقد تشك في القادم من الشرق فيأتيك من الغرب والعكس، أيضاً ليعكس رؤية سياسية عالية الحنكة والمرونة والتوقع والتلائم والتكيف، وهو ما مكنه من التعامل مع حرب الخليج الأولى والثانية على نحو أفضل لصالح المصالح الوطنية والعربية والإسلامية، كما ساعد على تفادي السفينة الكثير من المصاعب والمشكلات والتحديات، ووصولها إلى بر الأمان في خضم تلك المشكلات. ولم يضن عليها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان، بعد وفاته بغرس ورثته وأبنائه الخير والحب والتواصل والجد والحنكة، فتواصلت السفينة في سيرها متفادية التحديات المتجددة دوماً، ملقنة دروساً بأن الإمارات لم تقم في ظل طرق ممهدة، ولم تجد نفسها بين عشية وضحاها فيما هي عليه، وأن ما تواجهه الإمارات من مصاعب مع اختلاف أنواعها وأشكالها، هو أمر اعتادت عليه القيادة السياسية واعتاد عليه مواطنوها، وأن هذا لم يعطها إلا صلابة وقدرة أكبر على الاستمرار في مسيرة الإنجازات. وجاء صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، ليكمل مسيرة الإنجازات، والتعامل مع المتغيرات المعاصرة فباتت الإمارات قبلة لنحو ملياري نسمة من سكان المعمورة، ومحطة لأول وكالة دولية (إيرينا) في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، وأكبر سوق مفتوح في المنطقة، وملتقى ثقافياً وأكاديمياً، مع اضطراد لمستوى معيشة المواطن وابتعاث العديد من الطلاب الإماراتيين للخارج وتمكين المرأة في كافة أجهزة الدولة على نحو تعدى مجرد الرمزية وسبقت غيرها من الدول المتقدمة في هذا المجال، كما استطاع صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان حفظه الله أن يبرز سياسة التوازن، وأن يفعِّل سياسة الحياد، وأن يوظف الإيجابية لتعظيم المصالح القومية للإمارات. كما استطاع صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان حفظه الله ومن معه وبمساندة من شعب أحبه أن يبرز حنكة سياسية اعتاد وتربى عليها بالنسبة للتحديات التي لها فترة طويلة مثل قضية الجزر الإماراتية المحتلة، والتأكيد على رغبة الإمارات في الحلول السلمية من خلال المفاوضات أو اللجوء للتحكيم الدولي أو من خلال محكمة العدل الدولية، كما تعاملت الإمارات بإيجابية محسوبة مع التغيرات النوعية التي حدثت بالعالم العربي، مازالت آثارها ممتدة حتى الآن، وأكدت على حق الشعوب في تقرير مصيرها، كما أكدت على مبدأ عدم التدخل في شؤون الآخرين، ولم تبخل على أشقائها من الدعم المالي والمعنوي والسياسي. ولم تكن هذه الأحداث الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، ولكن الثابت فيها أننا أمام قيادة نثق في قدراتها وندرك حجم أعبائها، ونعي قدرتها على التغلب على التحديات التي تواجهها، ومتأكدين من قدرتها على تحويل تلك التحديات والمصاعب إلى إنجازات تعودنا عليها منهم. ومن جانبنا يظل إيماننا بقيادتنا ومعرفتنا لخصوصيتنا من أهم دعائمنا وتواصلنا وقدرتنا على تحويل التحديات التي اعتدنا عليها إلى فرص وإنجازات، وبات من واجبنا أن نتحد وأن نتواصل مع قيادتنا وأن نتصدى بحزم أمام كل من يفكر أن يهز هذا الترابط أو يهز هذه الثقة. وحفظ الله الإمارات شعباً وحكومة. علي ناصر النعيمي سفير الإمارات في أستراليا ونيوزيلندا