ترددت كثيراً في الكتابة عن هذا الموضوع خشية التحيز، فكاتب المقال ينتمي إلى أحد طرفي الأزمة، وناشره ينتمي إلى الطرف الثاني، لكنني حسمت ترددي إيماناً بأن محاولة توخي الموضوعية قد تفضي إلى أفكار مفيدة بشأن إدارة الأزمة التي تتلخص كما هو معروف في إلقاء السلطات في دولة الإمارات العربية المتحدة القبض على عدد من العاملين المصريين هناك بتهمة ممارسة أنشطة غير مشروعة داخل دولة الإمارات، والتورط في محاولات ضم مواطنين إماراتيين لكيان إخواني سعى الموقوفون إلى إقامته داخل الدولة. ووفقاً للسلطات الإماراتية فإنها تملك أدلة توصف بأنها دامغة على صحة التهم المنسوبة للموقوفين، وبحسب أحد المصادر فإن بعضاً من هذه الأدلة أتيح لعواصم خليجية فاعلة على رأسها الرياض. ويمكن القول بأن لهذه الأزمة جذوراً تمثلت في تصريحات القائد العام لشرطة دبي بخصوص مؤشرات نشاط إخواني في الدولة التي لن تسمح أبداً بالعبث بأمنها. وثمة سؤال مبدئي تتعين علينا الإجابة عليه بخصوص تكييف الأزمة الراهنة: أهي أزمة بين مصر ودولة الإمارات أم بين «جماعة الإخوان المسلمين» وهذه الدولة؟ والواقع أن «مصر» قد تكون كلمة غير مناسبة في هذا السياق، لأن مصر «الدولة» -وأول عناصرها الشعب المصري- لا يمكن أن تدخل في أزمة من هذا النوع، وقد يكون من المناسب التذكير بأن «مصر» الدولة في ذروة دورها القيادي في الوطن العربي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته لم تسقط في شرك التدخل في الشأن الداخلي للدول العربية على النحو الذي يفترض في الأزمة الراهنة، وإنما كانت تحدث تأثيراتها في تلك الدول بتوفير تجربة تغري بالاقتداء بها، ولذلك فإن الأزمة الراهنة قد تكون أقرب إلى كونها أزمة بين جماعة «الإخوان المسلمين» وبين دولة الإمارات، فمبادئ السياسة الخارجية المصرية المعلنة تؤكد بوضوح احترام سيادة الدول العربية وعدم التدخل في شؤونها، لكن المشكلة أن جماعة «الإخوان المسلمين» تمسك الآن بزمام السلطة في مصر، ومن هنا التداخل بين التكييفين السابقين للأزمة. ومع ذلك يلاحظ أن إدارة الأزمة من الجانب المصري لم تتضمن أساساً مشاركة وزارة الخارجية، وإنما تُركت محاولات تسوية الأزمة لوفود صحيح أنها تتحدث باسم «الدولة المصرية»، لكن تكوينها أساساً من عناصر «إخوانية» على رأسها مساعد الرئيس للشؤون الخارجية الذي يتوقع البعض أن يكون وزير خارجية مصر القادم، وقد يقال بحق إن وزارة الخارجية كثيراً ما كانت تُستبعد من الإمساك بعدد من الملفات الحساسة على رأسها الصراع العربي- الإسرائيلي، وذلك لحساب الرئاسة المصرية أو جهاز سيادي في الدولة هو المخابرات العامة، لكن الخارجية في هذه الحالات كانت تُشرَك في الوفود التي تناولت هذه الملفات، كما أنها المرة الأولى بحسب علمي التي تتحدث فيها وزارة الخارجية صراحة عن استبعادها من إدارة الأزمة، ففي تصريحات نسبت لمصادر في الوزارة يُحمد لها صدقها وشفافيتها جاء صراحة أن الوزارة لا تتعامل مع ملف الموقوفين المصريين في دولة الإمارات، وأن الأمر يتم بالكامل من خلال «جماعة الإخوان المسلمين» وشخصيات مصرية مستقلة عملت لسنوات طويلة في دولة الإمارات، وأبدت استعدادها لتقديم خدماتها لحل هذه المشكلة. وفي إشارة غير مباشرة لموقف الخارجية المصرية قالت هذه المصادر: «الموضوع كله مع الإخوان، واللي بنقوله بلاش نخسر ناس أكثر من كده، لأن البعض يريد أن يصعد في انتقاد الإمارات، وهو الأمر الذي سيعقد الدنيا ولن يحل شيئاً». والسؤال الثاني في هذه الأزمة يتعلق بإمكانية إقدام «جماعة الإخوان المسلمين» من حيث المبدأ على عمل كهذا، والإجابة بكل تأكيد هي نعم، فـ«الإخوان المسلمون» تنظيم تجاوز عمره الثمانين عاماً، وله مشروعه العربي والإسلامي بل والعالمي، ولذلك فإن هناك «تنظيماً دولياً» لـ«الإخوان المسلمين»، وقد سعوا دائماً إلى محاولة تطبيق هذا المشروع، ودورهم في تفجير ثورة عام 1948 في اليمن للتخلص من حكم الإمامة المستبد معروف، لكنه في الوقت نفسه دليل على وجود هذا المشروع بأبعاده السابقة ومحاولة وضعه موضع التطبيق، ولا شك عندي أنهم ينظرون إلى التمكين لحكمهم في مصر من ناحية واحتمالات تكوين كتلة «إسلامية» متلاصقة جغرافياً تضم بالإضافة لمصر كلاً من تونس وليبيا و«حماس» في غزة والسودان باعتبار أن ذلك يمثل لحظة مناسبة أو حتى مثالية لانطلاق مشروعهم هذا. وتجري الآن محاولات للتسوية السياسية للأزمة، وإن بدت صعبة للغاية بسبب ما تحدثت عنه مصادر دولة الإمارات عن امتلاكها أدلة دامغة ضد الموقوفين، كما أنه يلاحظ غياب ضغوط وطنية عامة على دوائر صنع القرار في مصر من أجل التصعيد، وإنما لا يتجاوز الأمر مواقف بعض منظمات حقوق الإنسان والنشطاء السياسيين والنقابات المهنية التي ينتمي إليها الموقوفون، وهو ما يقدم نموذجاً يختلف جذرياً عن الغضبة الشعبية المصرية العارمة ضد إلقاء السلطات السعودية القبض على المواطن المصري أحمد الجيزاوي بتهم يدينها القانون السعودي، وقد أدت هذه الغضبة في إحدى مراحلها إلى حصار السفارة السعودية بالقاهرة وترديد شعارات معادية أدت إلى سحب السعودية سفيرها وقيام وفد شعبي بزيارة ترضية للسعودية انتهت بتلاشي الأزمة، وربما يرجع الموقف الشعبي المصري تجاه الأزمة الراهنة إلى عدة اعتبارات منها السجل التعاوني الخالص بين مصر ودولة الإمارات عبر العقود، ومنها أن قسماً من الشعب المصري يتفهم بالتأكيد موقف السلطات في دولة الإمارات لأنه هو نفسه كان ضحية لأساليب «جماعة الإخوان المسلمين». على أن ما سبق لا يعني بأي حال أن الشعب المصري لا يأبه بمصير أبنائه بالخارج، ولذلك فأغلب الظن أنه يتمنى بصفة عامة التوصل إلى تسوية سياسية يتم بموجبها الإفراج عن الموقوفين وإعادتهم لوطنهم مقابل ضمانات أكيدة ضد أية محاولات للتدخل في الشأن السياسي الداخلي لدولة الإمارات، فإن استحال هذا -وهو السيناريو المرجح للاعتبارات التي سبقت الإشارة إليها- لن يكون هناك مناص من استكمال التحقيقات في القضية وصولاً إلى عرضها على القضاء، وهو حل يفترض أنه يطمئن طرفي الأزمة. سوف ينتظر الشعب المصري إذن من السلطات الإماراتية تعاملاً قانونياً شفافاً مع الأزمة إن استحال التوصل إلى اتفاق سياسي بشأنها، لكن جماعة «الإخوان المسلمين» عليها أن تدرك من ناحية أخرى أنها أصبحت مسؤولة عن حكم دولة، وبالتالي فإن تصرفاتها شئنا أم أبينا محسوبة على الدولة المصرية، وقد تصيب هذه الدولة بضرر بالغ إذا اتسمت هذه التصرفات بعدم الرشادة، وهو وضع مناقض لما كانت عليه أيام المعارضة، كما أن عليها أن تدرك أن القلق من نشاطها ليس مقتصراً على دولة الإمارات فحسب وإنما قد يشمل معظم دول الخليج، وهو ما يعني أن تصرفات «الجماعة» قد تفضي إلى ضرر بالغ يصيب العلاقات المصرية بهذه الدول، ولعل هذا هو مغزى التصريحات التي سبقت نسبتها لمصادر في الخارجية المصرية ومفادها التحذير من خسارة مزيد من الأطراف الدولية.