أعتقد أن المساعي التي يبذلها البيت الأبيض في الوقت الراهن لإحياء سياسة «إعادة ضبط العلاقات» مع روسيا بوتين ستكون بمثابة جهد ضائع -على الأرجح. فهذه السياسة باتت ميتة الآن، ليس بسبب خطأ من أحد أو سوء نية، وإنما لأن واشنطن وموسكو قد وصلتا إلى آخر حدود التهادن والمساومة، بحيث لم يعد في مقدور أي من الطرفين أن يخطو خطوة أخرى إضافية من دون تعريض عناصر جوهرية، وقيم معنوية، في سياساته الخارجية والداخلية للخطر. وسيكون من الأفضل، بدلًا من ذلك، تسخير جهد إدارة أوباما من أجل صياغة استراتيجية أكثر واقعية تعمل -على أقل تقدير- على تحقيق استقرار العلاقة، حتى وإن كان ذلك على مستوى تفاعل أقل مما هو موجود حالياً. وهناك مجموعتان من العوامل يمكن اعتبارهما الأكثر مسؤولية عن الانفصال المتنامي بين الولايات المتحدة وروسيا. المجموعة الأولى: تتعلق بتضاؤل أهمية روسيا الجيو- استراتيجية بالنسبة لبعض أهداف الولايات المتحدة الرئيسية. والمجموعة الثانية تتعلق بالدور المتزايد الذي تلعبه السياسات الداخلية للكرملين في تحديد مسار العلاقات الأميركية- الروسية. ففي أعقاب إعادة انتخاب بوتين في مارس عام 2012، قام الكرملين بجهد منسق ومستمر من أجل تهميش، وتشويه سمعة، ليس فقط المعارضة السياسية، وإنما أيضاً الأشخاص الذين يساهمون في الاحتجاجات السلمية، وأعضاء الحركات المدنية الروسية المستقلة وغير السياسية. ومنذ الفترة التي سبقت انتخابات مجلس «الدوما» في النصف الثاني من عام 2011 أخذ النظام الروسي بدءاً من بوتين وحتى مستوياته الدنيا في استخدام ذريعة المؤامرة التخريبية التي تشنها قوى خارجية ضد روسيا لتبرير حملات التضييق. والمشاعر المناوئة لأميركا تقع في قلب تلك الحملة. فبعد أن اتهم الرئيس بوتين وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون بتأجيج مظاهرات المعارضة عام 2011، بدأت قناة NTV الوطنية الروسية في إذاعة سلسلة من الأفلام الوثائقية التي تبيّن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في دعم حركات المعارضة الروسية. ويصور أحد تلك الأفلام الوثائقية السفير الأميركي الجديد لدى روسيا «مايكل ماكفاول» على أنه عميل أرسلته الحكومة الأميركية لتأجيج «ثورة ملونة» جديدة ضد روسيا. ووصلت الحملة المناوئة لأميركا إلى ذروتها في المؤتمر الصحفي الذي اعتاد بوتين عقده في نهاية العام. ففي ذلك المؤتمر، صور الرئيس الروسي، الذي كان قد قاطع قمة الدول الثماني الكبرى في كامب ديفيد، الولايات المتحدة بأنها دولة «لا تبدي أي رد فعل حيال الجرائم التي ترتكب ضد الأطفال الروس المتبنين» بما في ذلك عندما يتعرض هؤلاء الأطفال «للضرب حتى الموت» -كما قال. ولم يكن هذا هو المظهر الأخير للتوتر السائد في العلاقة الثنائية بين الدولتين. ففي الولايات المتحدة مرر الكونجرس قانوناً في شهر ديسمبر الماضي عرف باسم قانون «سيرجي ماجنيتسكي للمحاسبة وحكم القانون» الذي تقرر بموجبه منع المسؤولين الروس المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان والفساد من دخول أراضي الولايات المتحدة، وتجميد أرصدتهم وأصولهم فيها. ومن المعروف أن هذا القانون قد استمد اسمه من المحامي الروسي سيرجي ماجنيتسكي المناهض للفساد الذي كان يعمل لحساب شركة محاماة أميركية واتهم مسؤولين في الضرائب الروسية بتزوير ضريبي بقيمة 230 مليون دولار. وقد مات أثناء احتجازه في أحد السجون الروسية في ديسمبر عام 2009. وبعد تمرير هذا القانون بشهر انسحبت الولايات المتحدة من مجموعة العمل الثنائية المختصة بالمجتمع المدني المنبثقة عن اللجنة المشتركة التي يطلق عليها «لجنة أوباما- ميدفيديف». وفي هذا السياق قد يكون إجراء خفض إضافي في الأسلحة مجرد إجراء بسيط لن يكون قادراً بمفرده على تحمل العبء الكامل لإصلاح العلاقات بين البلدين أو إحياء سياسة «إعادة الضبط». والثمن الذي من المؤكد أن الكرملين سيتمكن من الحصول عليه للتوقيع على معاهدة «ستارت» جديدة قد لا يكون مغرياً أو متناسباً مع ما تطمح إليه الولايات المتحدة من أهداف في مجال الدفاع الصاروخي وتعزيز الديمقراطية. وهناك بديل لهذه التوقعات غير الواقعية، يمكننا أن نطلق عليه «الوقفة الاستراتيجية» التي يمكن أن توفر الفرصة لتعريف أو إعادة تعريف الأولويات في العلاقة، والثمن الذي يمكن لكل طرف دفعه من أجل تحقيق هذه الأهداف. والوقفة الاستراتيجية لا تعني أبداً التوقف عن العمل. ففي جميع الأحوال يجب إبقاء قناة الاتصال مع موسكو مفتوحة، لأن الولايات المتحدة في حاجة للبناء على الإنجازات التي تحققت والمجالات التي يوجد اتفاق بشأنها بين الدولتين مثل التعاون في مجال منع الانتشار النووي، ومكافحة الإرهاب، ودعم، وإمداد الجهد العسكري الأميركي، المتبقي في أفغانستان، وتنسيق السياسات بينهما من أجل إحباط تهديد الأصولية الإسلامية في آسيا الوسطى. والشيء الأكثر أهمية هو ألا تتخذ تلك الوقفة كذريعة من جانب الولايات المتحدة للتراجع عن دعم حركة المجتمع المدني الروسية الصاعدة. والتحدي الذي يواجه الولايات المتحدة في هذا السياق هو التوصل إلى نقطة تلاقٍ، أو مساحة وسطى، بين الغرور الذي يخيّل لها أنها قادرة على صياغة وتوجيه التطور الداخلي في روسيا، وبين التسليم بعجزها عن تحقيق أي شيء في هذا الاتجاه «من الخارج» بدءاً من أوباما وحتى أدنى مستويات وزارة الخارجية. وينبغي أن تكون الرسالة الموجهة لموسكو واضحة وصريحة وهي أن الدولة الروسية الحرة، والديمقراطية، والمستقرة، المتصالحة مع شعبها ومع العالم ستمثل إضافة جيو- استراتيجية هائلة للولايات المتحدة، التي ستكون عندئذ في غاية السعادة والسرور للترحيب بها كصديق وحليف. ــ ليون آرون مدير الدراسات الروسية في معهد «أميركان إنتربرايز» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي إنترناشيونال»