أكدنا في المقال السابق على حقيقة كون الخطاب ظاهرة معرفية ثقافية اجتماعية مركبة، وأن القراءة هي العملية التي تميط اللثام عن طبيعة الخطاب، وتنقله من المجهول إلى المعلوم، وتهبه معاني لا تكف عن التجدد. ويشهد الواقع الحالي على أننا أصبحنا نعيش في بحر من الخطابات المتعددة، سواء تلك التي نرسلها للآخرين، أو تلك التي نتلقاها من الآخرين. وتتقاطع أنواع وأشكال ومضامين هذه الخطابات، كما تتفاعل عبر حدود المحلي والعالمي، وباتت هذه الخطابات تتجاوز حدود الزمان والمكان. وذابت الحدود الفاصلة بين الخطابات ذات الطابع المحلي والخطابات ذات الطابع العالمي، لذا يرى البعض أننا نشهد الآن سيطرة خطاب ذات طابع عالمي أو عولمي يتسم بمجموعة من السمات الثقافية والفكرية تتجاوز حدود الزمان والمكان. ولا شك أن هذه الخطابات تؤثر فينا وتوجه أفكارنا وسلوكنا ربما من حيث لا ندري، حيث تعددت وتغيرت المفردات والوسائط، التي تستعين بها هذه الخطابات في توصيل الرسالة التي تود توصيلها إلى المتلقي. فلم تعد الكلمة أو اللغة هي الوسيط الأساسي الذي تلجأ إليه هذه الخطابات في توصيل رسالتها، بل تداخلت الكلمة مع الصورة وتعددت الوسائط والوسائل، التي تستعين بها هذه الخطابات في توصيل رسالتها، وفي التأثير على متلقي الخطاب. وأياً ما كان من أمر هذه الخطابات، محلية أو عالمية، منطوقة أو مقروءة، شفاهية أو مكتوبة، فردية أو اجتماعية، وأياً ما كانت الوسائط التي تستعين بها؛ فإنها تحمل رسالة معينة تسعى إلى توصيلها للمتلقي، كما تسعى إلى التأثير عليه. وأن فهم هذه الرسالة يستلزم منهجاً أو استراتيجية لتحليل الخطاب وتفسيره. فكيف يمكن أن تساعدنا هذه الاستراتيجيات في تعزيز قدراتنا على فهم الخطاب وتحليله، وأن يكون هذا الفهم والتحليل وسيلة لفهم ذواتنا وفهم الآخرين؟ ونبدأ حديثنا عن هذه القضية بالتأكيد على بعض الأفكار الأساسية القابلة للنقاش والحوار، لعل أهمها:- أولاً: أن الخطاب أو الكلام يمثل الوسيلة الأساسية التي يعبر الأفراد من خلالها عن ذواتهم، ومن ثم فإن هذا الخطاب يعد كاشفاً عن تصور الفرد لنفسه، وتصوره للآخر، سواء كان هذا الآخر من بني وطنه، أو الآخر الأجنبي. ثانياً: أن الخطاب، بوصفه ظاهرة مركبة ذات أبعاد لغوية وثقافية ومعرفية واجتماعية، فإنه يتداخل مع العديد من التخصصات العلمية. وبالتالي يمكن تحليل الخطاب وفق المرجعية النظرية والمنهجية لفروع المعرفة العلمية، التي تهتم بدراسة الخطاب، حيث أصبح مفهوم الخطاب وتحليل الخطاب من المفاهيم المتداولة داخل العديد من التخصصات العلمية مثل علم اللغة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والدراسات الثقافية. ومن المحتمل أن تتقاطع وتتفاعل استراتيجيات تحليل الخطاب عبر هذه التخصصات العلمية، وعليه فإن التداخل والتفاعل بين التخصصات العلمية المعنية بتحليل الخطاب حقيقة واردة، والأمر نفسه ينطبق على استراتيجيات تحليل الخطاب. ثالثاً: أن الخطاب الواحد يحمل معاني ودلالات متنوعة، ولا توجد طريقة واحدة لفهم الخطاب وتحليله، فالخطاب الواحد يقبل أكثر من قراءة وأكثر من تأويل. ولكل قارئ الحق في التعبير عن وجهة نظره وطريقته في فهم الخطاب وتفسيره. رابعاً: لا يعني ذلك أن عملية تحليل الخطاب وفهمه عملية عشوائية، بل هي عملية منهجية تتم وفق استراتيجيات ومناهج يجب أن يحددها القائم بتحليل الخطاب. وتأسيساً على ما سبق، نحاول فيما يلي إلقاء الضوء على أهم الاستراتيجيات التي تساعدنا على فهم الخطاب وتحليله. ومن أهم الاستراتيجيات أو المناهج الأكثر شيوعاً في تحليل الخطاب استراتيجية التحليل اللغوي للخطاب، حيث يعد الخطاب وفق هذا المنطلق وحدة لغوية، تتكون من سلسلة من الجمل والعبارات، وتنتظم فيما بينها لتكون نصاً أو خطاباً. وأن تحليل الخطاب يعني تحليل اللغة المستعملة في الخطاب، من حيث المحتوى أو المضمون، ومن حيث البنية والتركيب. وكيفية استخدام هذه اللغة من جانب المتكلم أو الكاتب لإيصال معانٍ محددة للسامع أو القارئ. وتساعدنا هذه الاستراتيجية في التعرف على القوانين اللغوية الحاكمة لبنية الخطاب، لكنها تحتاج إلى خبرة ودراية عاليتين بقواعد اللغة قد لا تتوافرن إلا للمتخصصين. وإذا كان الخطاب، سواء كان منطوقاً أو مقروءاً أو مسموعاً، يمثل ممارسة لغوية، ولا يمكن تصور إنتاجه أو فهمه إلا من خلال اللغة. واللغة التي يجسدها الخطاب لا يتم إنتاجها وتداولها في فراغ، بل في سياق اجتماعي وثقافي معين. من هنا تبدو أهمية استراتيجية التحليل الاجتماعي والثقافي للخطاب. وتؤكد هذه الاستراتيجية على أن أية نظرية في تحليل الخطاب تتضمن بالضرورة نظرية عن المجتمع. وبالتالي فإن الخطاب وإنْ كان يشكل بنية لغوية، فإن هذه البنية تعبر عن العلاقة التفاعلية بين الأفراد، وتكشف عن المجال المعرفي الذي يساهم في تشكيل وعي الأفراد بعالمهم الاجتماعي، ذلك لأن اللغة التي يحتوي عليها الخطاب، وطبيعة اللغة التي يستعملها، تسعى بالضرورة إلى تأسيس علاقات تواصل وتفاعل بين أفراد المجتمع. كما أن المجتمع هو الذي يحدد كيفية استعمال الأفراد للغة، وأن طريقة استخدام اللغة تتعدد بتعدد الخلفيات الفكرية والاجتماعية للأفراد، مما يفضي إلى تعدد أنواع الخطابات المتداولة في المجتمع وبين الجماعات الاجتماعية والثقافية. ومثلما يغدو الخطاب كاشفاً عن طبيعة العلاقة بين الأفراد بعضهم بعضا، وعلاقتهم بالبناء الاجتماعي، فإن الخطاب يكشف، ويعبر، أيضاً عن طبيعة الثقافة السائدة في المجتمع، وما تحتوي عليه هذه الثقافة من قيم ومعايير تنظم طبيعة التفكير والتفاعل الاجتماعي بين الأفراد، وتشكل هذه الاستراتيجية جوهر اهتمام الدراسات الثقافية في تحليل الخطاب. ويمكن أن تفيدنا استراتيجية التحليل الاجتماعي والثقافي للخطاب في التعرف على أنماط الخطاب السائدة داخل المجتمع، وطبيعة القيم الثقافية التي تحملها هذه الخطابات. وعلاقة هذه الخطابات بالمؤسسات الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع، والقنوات التي تستخدمها هذه المؤسسات في نشر أو توصيل هذه الخطابات للمتلقي، كما يمكن أن تفيدنا هذه الاستراتيجية في التعرف على طبيعة الصورة الثقافية للذات المجتمعية، في مواجهة الصورة الثقافية للآخر. ويمكن النظر إلى الخطاب- وفق استراتيجية التحليل النفسي- بوصفه بنية كاشفة عن طبيعة النفس البشرية، وما تتسم به هذه البنية من وعي وإدراك، وقدرة على التقمص، والرغبة في تحقيق الذات. وتساعدنا هذه الاستراتيجية في التعرف على طبيعة الصورة الذهنية التي ترسمها الذات لنفسها وللآخرين. وارتباط هذه الصورة بطبيعة النظام المعرفي والإدراكي للفرد، وما يترتب عليها من أحكام إيجابية أو سلبية تمثل أساساً لتقييم الآخر والحكم على سلوكه. ولا شك أن تعدد وتنوع هذه الاستراتيجيات في فهم الخطاب وتحليله، يؤكد حقيقة أساسية تتمثل في كون الخطاب قابلاً لأكثر من قراءة وأكثر من تأويل، وأن أياً من هذه الاستراتيجيات لا تستطيع بمفردها أن تقدم فهماً شاملاً أو تحليلاً كلياً للخطاب، الأمر الذي يعني ضرورة تكامل هذه الاستراتيجيات وتفاعلها في تحليل الخطاب، من أجل أن يكون هذا التحليل مدخلاً لفهم الصورة الذهنية التي نراها أو نرسمها لذواتنا وذوات الآخرين، في مرايا الخطاب.