الحديث الطائفي ليس مستساغاً ولا مرغوباً، غير أن بعض الأزمنة تفرض مفرداته ومصطلحاته على الجميع، واستخدام تلك المفردات للتوصيف والشرح وإيصال الأفكار، يختلف تماماً عن نصبها معايير ومقاييس يحاكم على أساسها نوايا الأفراد وإيمان الجماعات. تنعم دول الخليج العربي باستقرار وأمان وتنمية كانت نتيجة تعب الآباء والأجداد، ورؤى القادة وتفاني الشعوب، وقد شارك المواطنون الشيعة في كل مجالات الاستقرار والبناء والتنمية في هذه الدول، فمنهم سياسيون مخضرمون ودبلوماسيون عريقون، ومثقفون كبار ورجال أعمال ورجال دين وغيرهم، وقد أسهموا جميعاً بالكثير من الإنجازات الوطنية على المستويات كافة، وتحمّلوا مسؤوليات وقدّموا خدمات جليلة لبلادهم ومواطنيهم تستحق الإشادة والتقدير والاستذكار، ويجب أن يتم هذا كله باعتبارهم مواطنين كاملي الوطنية لا باعتبارهم شيعة. على طريقة تفادي الأضرار قبل وقوعها، واستقراء المقبل، فإنه في ظل الصراعات السياسية الكبرى في المنطقة، والتي اختارت الجمهورية الإسلامية في إيران لها جسراً طائفياً صارخاً سيدفع بحكم طبيعة الأشياء والتاريخ إلى أن ينتشر ويتصاعد الخطاب الطائفي على المستويات كافة، وستنخرط كثير من التيارات في معارك طائفية لا تبشر بأي خيرٍ على مستوى نوعية الخطاب وطبيعة العلاقات وحجم التفاعل، وستتفشى التفاصيل الطائفية تبعاً لانتشار ما يستدعيها من مواقف وأحداث مقبلةٍ سيكون الكثير منها شنيعاً ومؤلماً على المستوى الإنساني من دون شكٍ، ولكن تجييرها لتصبح سلاحاً طائفياً للتفرقة هو ما يجب الانتباه له والحذر منه واتخاذ مواقف صريحة ضده. نعم، سنصل لمراحل غلو وتشدد، وهذا أمر لا يبدو أن بالإمكان تجنبه، ولكن هذا لا يمنع أبداً أن بالإمكان الحدّ منه ابتداء بالوعي به والاستعداد له واستباقه ومجابهته، ومجابهة أي محاولات تصعيد طائفي في دول الخليج بخطابات عقلانية وطنية جامعة. للأسف إنه في أجواء كهذه ستتزايد الضغوط على المواطنين الشيعة بفئاتهم كافة عبر مطالبات بإيضاح مواقفهم تجاه أحداث معينة هنا أو هناك لا علاقة لها بوطنيتهم وحقوقهم وواجباتهم، بل بانتمائهم الطائفي، وسيطلب منهم إعلان البراءة من هذه الفئة أو تلك أو هذا الحادث أو ذاك، وهي فئات وأحداث يمكن توقع كثيرٍ منها من حيث النوع والطبيعة في الفترة القادمة، وما يجب أن يكون معلوماً هو أن المواطنين الشيعة بوصفهم مواطنين غير مجبرين أمام أي تيارٍ أو شخصٍ على الخضوع لامتحانات واختبارات في الوطنية يفرضها المتشددون ويمارسون الضغط من خلالها. من باب تأكيد المؤكد، فإن المواطنين الشيعة في دول الخليج العربي منتمون لأوطانهم بإخلاص وتفانٍ، وأي شذوذٍ يخرج بين ظهرانيهم يؤكد قاعدة وطنيتهم، لا ينقضها ولا ينقصها، مثله مثل أي إجرام يرتكبه أي مواطن في أي مجال يكون مآله المحاكمة والإدانة والعقاب. ما يغيب خلف سجف التطرف وضلالات التشدد، هو أن غالبية الشيعة في دول الخليج العربي، بل وفي غالب الدول العربية ليسوا حلقة في المشروع الإيراني الفارسي، ويرفضون توسّل إيران بالطائفية لتنفيذه وإحكامه، بل كثير منهم ضده على طول الخطّ، وبعضهم حين يلتزم الصمت كما في العراق ولبنان على سبيل المثال، فإنما يفعل ذلك بسبب الخوف من ضغوط الجماعات والأحزاب المنظمة والقوية بالدعم الإيراني المباشر. وفي السياق نفسه يمكن قراءة تغيير «الإخواني» العتيد يوسف القرضاوي لموقفه تجاه «حزب الله» اللبناني واعتذاره عن دعمه وتعبيره عن الانخداع به لسنوات طويلة، وهو تحدث عن علماء السعودية وأنهم كانوا أنضج منه وأبصر منه، ويمكن الإشارة هنا إلى أن حجم المسافة التي عبر عنها القرضاوي بين وعيه ووعي علماء السعودية، يكمن في أنه فقيه اقتحم السياسة وتحدّث فيها باسم الدين والإسلام، بينما ركز فقهاء السعودية على العقائد والعبادات والأخلاق، ولم تتلوث غالبيتهم بأوحال السياسة ودنسها، التي كان القرضاوي يخوض فيها ويضع منذ نعومة أظفاره تابعاً لحسن البنا في تنظيم الإخوان المسلمين. إن رجال الدين لا يحسنون السياسة في الغالب، فهم يقتحمونها بمنطق غير منطقها ولغة غير لغتها، فهم يتعاملون معها بمنطق الحق والباطل، الأبيض والأسود، لا بمنطق المصالح ولغة التوازنات. لقد احتفى كثيرون بموقف القرضاوي، ولئن فعلوا ذلك فقد كان يجدر بهم أن يتساءلوا ما ذنب الآلاف الذين تبعوا القرضاوي على الوقوع في الخديعة المتمثلة في «حزب الله» اللبناني؟ وكيف يمكن تعويض سنوات الخديعة تلك من أقوالهم وأفعالهم ومواقفهم وأعمارهم؟ وهل يكفي رجل الدين أن يضل أتباعه دهراً، ثم يعتذر في لحظة لينتهي كل شيء؟ وما هو الواجب على هؤلاء الأتباع أن يأخذوه من درسٍ كهذا؟ إن العاقل منهم لن يسلم عقله مرةً أخرى لا للقرضاوي ولا لغيره من جماعات الإسلام السياسي، التي تعبث بالسياسة عبثاً وأحوالهم وسياساتهم في قيادة دول الفوضى العربية الجديدة في مصر وتونس أوضح مثال. عوداً على بدء، فإن القرضاوي حين تراجع عن مواقفه السابقة لم يتجه إلى الاعتدال في قراءة المشهد السياسي، بل عاد ليقرأ السياسة بلغة الطائفية ومنطقها ومفرداتها ومصطلحاتها تأكيداً عليها وتأييداً لها ودفعاً باتجاهها. قال القرضاوي: «إن الشيعة (هكذا) يعدّون العدّة وينفقون المال من أجل تنفيذ مجازر في سوريا للفتك بأهل السُّنة»، وأضاف أن الأسد «ينتمي لطائفة أكفر من النصارى واليهود، كون أتباعها لا يقومون بأي شعيرة من شعائر الإسلام»، وهي عبارات صارخة في طائفيتها كما هو ظاهر. صحيح أن ما يجري في سوريا هو جريمة نكراء بكل المقاييس، وكون إيران تدير معركتها ضد الدول العربية بطائفية فاقع لونها لا تسر أحداً، وأن مشروعها السياسي خطير لا يردعه أي رادعٍ إنساني إلا أن مقابلة الطائفية بطائفية مقابلة هو خطر لا يقل عن سابقه. إن الأزمات الكبرى كالتي تشهدها سوريا تخرج غرائز الناس الأصلية التي تخفيها المدنية والتعايش والتحضر، وقد كتب كاتب هذه السطور منذ بدء الأزمة أنها ستتحول لحرب طائفية سيطال شررها المنطقة كلها والعالم أجمع، وها نحن للأسف نرى هذا اليوم ونعيشه والقادم أسوأ. أخيراً، فإنه على الرغم من كل الجرائم التي ترتكبها إيران والمليشيات التابعة لها في سوريا، فإن إخواننا في الأوطان لا علاقة لهم بأولئك ومن يضارّهم بشيء فإنما هو مثير فتنة وداعية طائفي.