مما لاشك فيه أنه من الأسهل للزعماء أن يروا الأمور بوضوح ودون ظلال. والشك في الحقيقة هو أخطر أعداء الأشخاص الذين تكون لقراراتهم أهمية كبيرة. لكن كما رأينا في حرب العراق، فاليقين التام لم يضمن النجاح ولا سلامة التقدير. وفي السنوات الأولى من رئاسة الابن قوض الافتقار إلى الشك وسط صانعي السياسة النوايا الطيبة للرئيس. والرئيس أوباما مبتلى بالقدرة على رؤية جوانب مختلفة لكل قضية منذ توليه المنصب. ونهجه السياسي في أفغانستان هو المثال الأبرز على هذه الصفة في شخصيته. فبعد جدل داخلي مطول، قرر، في خطبة واحدة، إنهاء التورط الأميركي في أفغانستان وأعلن عن مغادرة الولايات المتحدة في موعد محدد. ومنذ ذاك الحين، رأينا أمثلة على تأرجح أوباما، فهو يعارض أسلوب إدارة بوش في انتهاكها للقانون الدولي ولكنه ينتهك سيادة آخرين مرات لا تحصى بهجمات موسعة بالطائرات من دون طيار، ويدافع عن الحريات المدنية ولكنه يشرف على أكبر توسع على الإطلاق لدولة مراقبة تطفلية. ويتجه إلى آسيا ولكنه يعود إلى الشرق الأوسط من جديد، ويذهب إلى الكونجرس ليحصل على موافقة لاتخاذ إجراء تجاه سوريا ولكنه يحتفظ بالحق في اتخاذ القرار بنفسه. وقد يرى المرء في هذا النوع من التذبذب ارتباكاً وليس تجلياً لذكاء شديد. وفي الحقيقة، فمن شبه المؤكد أنه مزيج من الاثنين. ولكن مع استمرار الشكوك، فالطبائع الأساسية هي التي تواصل تحريكها للسياسة في النهاية. فقد اُنتخب أوباما رئيساً للشعب الأميركي ليخرج بالولايات المتحدة من العراق وأفغانستان ويخفف من هلع الأميركيين من الحرب. فقد رأى فيه الناخبون نبض صانع السلام، وبعثت أعماله الأولى كرئيس رسالة إلى العالم توضح أن تقدير الناخبين كان صائباً. فقد كانت كلمته في القاهرة غصن زيتون ممدوداً إلى العالم الإسلامي. وكلمته في براغ بشأن نزع الأسلحة النووية عالجت الكابوس الذي جثم على صدر الإنسانية منذ الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. وحتى الكلمة التي ألقاها بعد فوزه الغريب والسابق لأوانه بجائزة نوبل للسلام كانت بها سمات صانع السلام أيضاً. وقد رأى أوباما بالطبع أن صناعة السلام تنطوي كذلك على الحفاظ على أمن قومي قوي للبلاد. وكان يعلم أيضاً أنه إذا ظهر أنه يتجاهل هذه النقاط فسيعرض نفسه لمخاطر سياسية. ولذا فسواء كان مدفوعاً بتقدير بسيط وسليم -أو ببعض من هذا والكثير من المصلحة السياسية الذاتية- فقد أصبح هو الرجل الذي يطلق الطائرات التي من دون طيار ويتصدى لفيروس «ستوكسنت» والهجمات الرقمية، ويوقع بأسامة بن لادن ويطارد أنور العولقي ويشرف على توسع مهمة وكالة الأمن، ويهاجم ليبيا ويهدد بالتدخل في سوريا. ولكن حتى في هذه الحالات، كشف أيضاً عن طبعه الأساسي وهو تفادي أو تقليل الدخول في صراعات مسلحة إلى أدنى حد حتى لا يعرض القوات المسلحة الأميركية للخطر. وقد دعم هذا الطبع المميز المساعي السلمية في بعض القضايا، وبعث أحياناً برسائل ربما زادت أعداءنا جرأة، ولكن في بعض القضايا، اتخذ أوباما القرار الخاطئ فيما يبدو، كما في حال التوسع الكبير في برامج الطائرات من دون طيار، وقراره بشأن دعم توسع أنشطة وكالة الأمن القومي المتطفلة، وهي بالفعل برامج غير دستورية. ولكن من الصعب إنكار أن نواياه بصفة عامة كانت سليمة في كل هذه الحالات. ومن المعروف أن الطريق إلى الجحيم محفوف بالنوايا الطيبة. ولدينا كذلك مثال في الآونة الأخيرة، جدير بالاعتبار: الاتفاق الذي أبرم الأسبوع الماضي بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن تخلي سوريا عن أسلحتها الكيماوية. ففي هذا المثال نرى أن الطبيعة والشخصية لهما قدرة على الإحجام عن اتخاذ القرار. فما أراده أوباما في سوريا واضح وهو تفادي حرب أخرى واتخاذ إجراء لوقف أكثر جرائم الحرب بشاعة المتعلق باستخدام الأسلحة الكيماوية. ولكنه اضطرب وتردد وبعث برسائل ملتبسة وتصرف بطريقة ضعيفة سياسياً تعبر بشكل كبير عن معاناته الداخلية. ولكن عندما واتته الفرصة لتحقيق الهدف دون حرب -على رغم أنه حل ليس مثالياً يترك رئاسة الأسد دون أن تمس ويعزز مكانة روسيا في لحظة لابد أن يجد أي رئيس صعوبة بالغة في تقبلها- فقد تصرف بسرعة البرق. ولكن مازال يتعين علينا أن ننتظر لنرى ما إذا كانت صفقة الأسبوع الماضي ستجدي نفعاً أم لا. وما زالت الشكوك تحيط أيضاً بكيفية حسم المأساة الأكبر في سوريا. ومن شبه المؤكد أن الرئيس خرج من الأسابيع القليلة الماضية ضعيفاً في الداخل والخارج. ولكن لو لم تكن نواياه تستهدف حقاً معالجة مشكلة الأسلحة الكيماوية، ولو كان يشعر حقاً بأنه يتعين عليه أن يتدخل عسكرياً أو كان يرى أن المشكلة المحورية هنا هي النفوذ الأميركي، لكان تصرف بشكل مختلف، أي كما كان من المحتمل أن يتصرف أحد الرؤساء السابقين، ولشن هجوماً، ورفض الصفقة. ولكنه لم يفعل ذلك، وتردد عندما فعل لأسباب تتعلق بطبعه الشخصي -وربما بدرجة ما بضعفه. إلا أنه في النهاية تصرف لأسباب تتعلق بالتركيبة الشخصية وليس لأسباب فكرية وانتهز الفرصة لتحقيق جانب على الأقل مما كان يأمل تحقيقه. وفي سوريا ومصر وعلى امتداد منطقة الشرق الأوسط وحول العالم، سيواجه أوباما الكثير من التحديات. وطبيعته كمتأرجح ومتردد -حتى إذا كانت هذا لأسباب وجيهة - ستتسبب بالتأكيد في المزيد من المشكلات وليس حلها. وعليه أن يثق في كيري وسوزان رايس وباقي الفريق حوله ليخفف هذه الميول ويعالجها داخل خياراته السياسية وليس بجانبها أو بطريقة تتناقض معها. والتقاعس عن فعل هذا قد لا يضعف الرئيس فقط بل قد يخلق نوعاً من احتمال وقوع صراع يسعى لتفاديه. ولا شيء من هذا يقلل من التحول الكبير في التعامل مع الشؤون العالمية سيتمخض عن كيان سياسي أميركي يعالج أخطاء وتجاوزات العقد الماضي بميل مهيمن وواسع للابتعاد عن التدخل. ونأمل أن تساعد الطبيعة الداخلية للرئيس على انتهاز الفرص التي قد تقود هذه البلاد والعالم إلى السلام. ديفيد روثكوف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ محرر في مجلة «فورين بوليسي» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»