تحفل وسائل الإعلام العالمية هذه الأيام بمناقشات المحللين السياسيين في العالم حول إمكانية توجيه ضربة عسكرية ضد نظام الأسد، الذي ارتكب جريمة إنسانية ضد شعبه عندما استخدم السلاح الكيماوي، أو عدم توجيهها. والمثير في هذه المناقشات أن الذين تسببوا في إيقاف هذه الضربة حتى الآن أو تأجيلها، هم الأوروبيون والأميركيون، فقد أفادت بعض استطلاعات الرأي بأن ما نسبته 75 في المئة منهم يرفضون الضربة، هذا إلى جانب رفض البرلمانات ومجالس ممثلي الشعب. وبالتأكيد لا يمكن للذين يدركون أبعاد الوضع الاستراتيجي في المنطقة، خاصة في سوريا التي يحيطها العديد من الدول غير المستقرة؛ إلا الترحيب بقرار عدم توجيه تلك الضربة التي وصفها وزير الدفاع الأميركي بأنها لن تكون «وخزة دبوس» كما يظنها البعض، لكن في الجانب المقابل، فإن الاتفاق الأميركي الروسي على ذلك، والذي تقف وراءه كذلك إيران من بعيد، له بلا شك حساباته الإقليمية والدولية، وستكون نتيجته فاتورة سياسية يدفعها نظام الأسد قبل الآخرين. هناك أكثر من نقطة مثيرة في هذه «المشادات» التي لا زالت مستمرة: النقطة الأولى، أن هناك حالة من الانجذاب عربياً، خاصة لدى أفراد من النظام السوري نفسه، إلى مسألة إصرار الرأي العام الغربي في رفض الضربة. وهذه الجاذبية تعني أن هناك إعجاباً واضحاً بمدى احترام السياسيين في تلك البلدان لإرادة شعوبهم وخياراتها السياسية، وبالتالي قبول هذه السياسة آراء الشعوب، ولو شكلياً، والامتثال لرأيها كنوع من تهدئة الوضع. النقطة الثانية؛ أنه يمكننا الاستدلال من تصريحات متوهمي «الانتصار السوري» في نظام الأسد، أن هناك انفصالاً بين إرادة الشعب السوري الذي يحاول منذ أكثر من عامين أن يوصل صوته لنظام الأسد بأنه لم يعد مقبولاً، وأن أوان تغييره قد حان. واستخدم الشعب السوري كل الأساليب والمحاولات ليبلغ رسالته للنظام، ومع ذلك لا يريد النظام أن يسمع إلا صوته وصوت أبواقه، وهو يركز على إرادة الشعب لدى الغرب ويسلط عليها الأضواء. وفي الوقت نفسه لا يراها حقاً لشعبه، وكأنه لا يعتبر الشعب السوري شعباً كباقي شعوب الأرض، يمكن أن يكون له رأي أو إرادة. والنقطة الثالثة؛ أن المهم في ظني فيما يخص الضربة العسكرية ينبغي ألا يكون تأجيلها أو إلغاؤها، خاصة بعد أن قدّم النظام تقريراً عن حجم السلاح الذي يمتلكه، باعتبار أن هذا الاحتمال قائم ومتداول بين المحللين، بل إن أغلبهم كان يتوقع أن الضربة لن تحدث، خاصة أن الغضب الروسي هذه المرة كان حقيقياً وصريحاً. والأكثر أهمية في الحقيقة هو اعتقاد نظام الأسد بأن ما حدث «انتصار له»، مع أننا ندرك أن هذا النظام لم يفقد وعيه السياسي، وهو يدرك جيداً قواعد اللعبة السياسية الدولية. كثيرون يعتقدون أن الاتفاق الأميركي الروسي، حتى مع غضب روسيا هذه المرة، لا يبدو بريئاً، ولا حتى بالنسبة لإيران، الحليف الاستراتيجي للنظام السوري. فكثير من الدوائر السياسية يستقبل هذا الاتفاق بوصفه نوعاً من الحسابات السياسية التي تستهدف التخلص من النظام الذي بات عبئاً على الكل، خاصة بعدما استخدم أسلحة كيماوية ضد شعبه، ما يعني أن بإمكانه حقيقة استخدامها ضد الآخرين. ومن جانب آخر، فإن عدم معاقبته لاستخدامه السلاح المحظور، ربما يوصل رسالة غير صحيحة لكوريا الشمالية، وربما لإيران أيضاً. الفكرة أن الشعوب الأوروبية ترى في توجيه الضربة مغامرة سياسية ربما تؤدي إلى نتائج وخيمة، وأن الحروب تسببت في الكثير من الأزمات الاقتصادية والسياسية في الغرب، وبالتالي لا ينبغي لهم ترك رغبات السياسيين تقود الدول إلى الهاوية كما حدث في العراق وأفغانستان. ومع أن الشعب السوري هو الآخر وجد في نظام الأسد تهديداً لمستقبل سوريا، وأنه يريد تقرير مصيره، فإن النظام لم يدرك تلك الرغبة ويجنب شعبه القتل اليومي. وربما يتجاوز الأمر سوريا؛ لأن الضربة أياً كان حجمها ونوعها، سيتعدى تأثيرها حدود سوريا. ومن هنا، فإن جرأة نظام الأسد في التنازل عن كثير من مؤشرات السيادة الوطنية، سواء في تراجعه عن موقفه في الاحتفاظ بالبرنامج الكيماوي من خلال قبوله تسليم قائمة بمواقع الأسلحة الكيماوية أو الانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار النووية، دليل على أن حقوق الشعوب في تفكير نظام الأسد مسألة ثانوية؛ فما يحق للشعب الأميركي والشعب البريطاني ليس شرطاً أن يحصل عليه المواطن السوري. لا يمكن اعتبار إشادة النظام السوري بموقف الرأي العام الغربي من الضربة عدالة، لأنه منع الإدارات السياسية الغربية من توجيه الضربة، في حين أن النظام يرفض السماع لمطالب شعبه. وإذا افترضنا أن النظام السوري لا يمازحنا بإعلانه الانتصار (على الأقل لأنه لا يعرف المزاح، أو لأن هذا ليس وقت المزاح) فإن الأمر لن يكون أكثر من أنه يريد استغفال المراقبين، ويتناسى حقوق شعبه. إن كل السياسيين في العالم يعملون من أجل إرادات شعوبهم، ولدينا الكثير من النماذج لذلك في المنطقة، وآخرها ما حدث في مصر، والاستثناء الوحيد من هذه القاعدة في الوقت الحالي هو نظام الأسد. ربما يقول قائل: إنه لو قارنا بين خيارات الشعبين في مسألة توجيه الضربة ضد نظام الأسد لوجدنا أن الرفض الغربي طبيعي، وبالتالي فالانصياع له لدى السياسيين أيضاً طبيعي، والأمر لا يحتاج كل هذه الضجة، لكن لو دققنا فيه سنجد أنه متعلق في الحالتين بقرار مصيري، وبالتالي يجب احترام إرادة الشعوب على الجانبين. إن احترام إرادة الشعوب من تقاليد النظم والمجتمعات المتحضرة، وبالتالي فإن إشراكها في القرارات السياسية أمر مفروغ منه باعتبار أن متخذي القرار هم ممثلو الدولة أو المجتمع. وأتمنى أن يعي نظام الأسد هذه الملاحظة، وأن يحترم إرادة شعب سوريا.