ما هو السؤال الجوهري والكبير الذي ينتصب أمامك إذا كنت تسعى إلى رسم ملامح ومسار السياسة العالمية خلال الخمسين سنة القادمة؟ بمعنى آخر، ما هو السؤال الذي تريد معرفة جوابه الآن حتى تستشرف آفاق تلك المرحلة؟ بالطبع هناك العديد من الأسئلة التي ترد على الذهن مثل ما إذا كان التغير المناخي سيستمر دون انقطاع مع تداعياته الممكنة على الاقتصاد العالمي والمناطق المنخفضة، وما إذا كان «اليورو» سيبقى على قيد الحياة، وأيضاً ما إذا كان الإرهابيون سينجحون في حيازة واستخدام سلاح للدمار الشامل؟ وهي أسئلة لاشك مطروحة وواردة، ولكن الأهم منها هو سؤال العلاقات الأميركية الصينية باعتباره سؤال الخمسين سنة المقبلة، والذي ارتباطاً به يبرز تساؤل آخر متفرع عنه حول ما إذا كانت الصين ستستمر في التعايش مع التواجد العسكري الأميركي المكثف في شرق آسيا، أم أنها ستبذل جهوداً متواصلة لدق إسفين بين الولايات المتحدة وحلفائها الحاليين تمهيداً لإخراج أميركا نهائياً من المنطقة؟ والحقيقة أن الوضع الحالي غير طبيعي بكل المقاييس، فمن الناحية التاريخية لا توجد قوة عالمية تنسج تحالفات وثيقة في جوار قوة أخرى، وتحافظ على قوة عسكرية كبيرة بالقرب منها دون أن تلجأ القوة الأخرى إلى التعويض عن ذلك بالانتشار في محيط خصمها. واللافت أن هذا التطويق والتواجد في محيط الآخر هو ما قامت به أميركا إبان الحرب الباردة ضد حلفائها، حيث نشرت قوات مهمة في أوروبا وآسيا فيما لم يكن للاتحاد السوفييتي سوى حضور متواضع في الجزء الغربي من الكرة الأرضية. وهذا الوضع كان انعكاساً للموقع الجغرافي غير الملائم للاتحاد السوفييتي والضعف الاقتصادي، فموسكو ما كانت لتتردد في دفع أميركا خارج آسيا وأوروبا وحصرها في المناطق الغربية للكرة الأرضية، لولا أنه لا سبيل لديها لتحقيق ذلك. وكما أشار إلى ذلك الكاتب «جون ميرشايمر» فمن المرجح أن تسعى الصين الصاعدة أيضاً إلى إخراج الولايات المتحدة من آسيا. فمن يرضى من القوى المهمة أن يظل مطوقاً بجيران تربطهم شراكات أمنية مع منافسه الرئيسي، أو يسمح لذلك الخصم بالحفاظ على قوة عسكرية مهمة على مقربة من سواحله؟ فالولايات المتحدة نفسها لم ترق لها فكرة تواجد أوروبي مهم في الجزء الغربي من الكرة الأرضية خلال سنوات نشأتها. وعندما تحولت إلى قوة عالمية لم تضيع وقتاً طويلاً قبل إخراج بريطانيا وفرنسا من فنائها الخلفي. ولاشك أن خلافات القوى الأوروبية وخشيتها من بعضها بعضاً ساعدت أميركا. ولكن النقطة الأساسية تبقى أن قادة أميركا أدركوا أن قوة بلادهم ستزداد أكثر إذا ما ظلت هي الطرف الوحيد المهيمن في منطقتها القريبة. والأمر نفسه ينطبق على الصين التي تريد هي الأخرى السيطرة على جوارها، وليس من قبيل المبالغة المراهنة على هذا الأمر. فلو أن أميركا حافظت على الوضع الراهن في آسيا الذي لا يتيح للصين أن تهمين على المنطقة، فإن بكين ستكون مضطرة للتركيز على القضايا الداخلية وستتراجع قدرتها على صياغة السياسة في مناطق أخرى من العالم. وفي المقابل إذا نجحت الصين في دفع أميركا خارج آسيا ستمتلك نفس الموقع المهيمن الذي حازته أميركا منذ وقت طويل على سواحلها، والذي سمح لها طيلة العقود الماضية بأن تجوب البحار وتملي على الآخرين ما يجب القيام به. ولو أن الصين سيطرت على جوارها فسيطلق ذلك يدها أيضاً في المناطق الأبعد، وربما سعت إلى نسج علاقات أوثق، بما فيها العلاقات الأمنية، مع بلدان في الجزء الغربي من الكرة الأرضية. ولذا يكتسي سؤال: إلى متى ستقبل بكين بالتواجد العسكري الأميركي في آسيا أهمية قصوى، فعلى مدى السنوات الخمس إلى العشر الأخيرة بدأ الصعود «السلمي» للصين يفسح المجال لجهود أكثر صرامة تحاول من خلالها قلب الوضع الإقليمي الراهن. ولكننا مع ذلك لم نسمع إعلاناً رسمياً من الصين يفيد بهذا التوجه ولا حتى خطابات نارية. وكل ما هنالك أن الصين تبذل جهوداً حثيثة وتدريجية لزعزعة الترتيبات الحالية وإرغام الدول المجاورة على إجراء مراجعات تصب في مصلحة الصين، بحيث تتنوع محاولات بكين تلك من التركيز على الجزر المتنازع عليها ومياه البحار، إلى الإعلان الأخير عن إقامة منطقة للدفاع الجوي، وفي جميع الحالات ليس الهدف فقط تعزيز مطالب الصين ببعض المناطق، بل أيضاً، وربما هو الأهم، تأكيد موقعها كقوة في المنطقة يتعين مراعاة مطالبها، وهو المسعى الذي عادة ما تنخرط فيه القوى الكبرى، ولاسيما في المحيط الإقليمي. فالولايات المتحدة لم تشن حرباً لإخراج بريطانيا من المحيط الهادي وأميركا اللاتينية، بل دفعت لندن فقط إلى تغيير أولوياتها والبقاء قريباً من سواحلها. وهو أيضاً ما تقوم به روسيا اليوم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث تضغط على أوكرانيا لرفض الدخول في علاقات أوثق مع الاتحاد الأوروبي. والحقيقة أن أي قوة صاعدة تسعى إلى ترسيخ سيطرتها الإقليمية لابد لكي تنجح أن تبتعد عن الحرب، ولنا فيما حصل لألمانيا مرتين واليابان مرة وحروب فرنسا النابليونية، خير دليل، بعدما شنت كل منها حروباً طاحنة على جوارها فكانت النتيجة كارثية. ذلك أنه عندما تحاول قوة ما اللجوء للحرب لفرض الهيمنة تتكتل الدول الأخرى ضدها لوقفها، في حين أن التراكم البطيء والتدريجي لأسباب القوة غالباً ما لا يؤدي إلى ردود فعل عنيفة، ولاسيما أن الحروب تحمل في طياتها احتمالات مفتوحة. والخلاصة أن صعود أميركا كقوة إقليمية يظل النموذج الأمثل لبقية الدول لتحقيق المكانة نفسها دون الحاجة لخوض الحروب، ولنتذكر أن مهمة طرد قوى أخرى من الجزء الغربي للكرة الأرضية كانت أسهل على أميركا، لأن فرنسا وبريطانيا كانتا تنشطان بعيداً عن أراضيهما واستنتجتا أن الانتشار هناك ليس بذات أهمية البقاء قريباً من الديار وتطويق ألمانيا. ولذا يبقى سؤال صعود الصين وتأثيره في صياغة العقود القادمة هو أهم الأسئلة المطروحة حالياً؛ وبالطبع ليس واضحاً بعد ما إذا كان هذا الصعود سيستمر أم لا، وحتى إذا تواصل ما هل ستلاقي جهود الصين في إخراج أميركا من آسيا النجاح، ذلك أن الكثير من هذه الأمور يعتمد على الطريقة التي سيتعامل بها حلفاء أميركا في المنطقة، ومدى إجماع مؤسسة الأمن القومي في واشنطن على القضايا الأمنية التي يثيرها صعود الصين في آسيا. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ستيفان إم. وولت أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»