سلمان العودة سياسيٌ أكثر من كونه فقيهاً.إنه رجلٌ يحمل مشروعاً شخصياً للبحث عن الزعامة،ومن يفهم هذه الفكرة يسهل عليه فهم التطورات والتناقضات في خطابه في مراحل متعددة بحسب المتغيرات التي يراها مهمةً لتحقيق طموحه. ثار جدلٌ في الفترة الماضية حول مسؤولية بعض الدعاة عن تحريض الشباب على الذهاب لمواطن الفتنة والقتال، وهدّد العودة برفع قضايا على قناة «إم. بي. سي»، وعلى داود الشريان الذي صرّح باسمه كمحرض. وقال «العودة» إنه كان يرفض ذهاب الشباب إلى تلك المناطق، والصحيح أن «العودة» كان يدعو البعض للذهاب،ولكنه كان يرفض أن تكون الدعوة عامةً لجميع الشباب،ولكن ليس للأسباب التي يذكرها اليوم، بل لأنه في تلك الفترة كان يريد أن يبقى أكثر الشباب ليكونوا عوناً له في صراعه مع الدولة. كانت بدايات «العودة» في الظهور عن طريق دروسٍ مسجديّةٍ كان يلقيها في مدينة بريدة منتصف الثمانينات، وكان يميل حينها إلى التسامح النسبي في وجه موجةٍ من التشدد الديني مثّلها «إخوان بريدة» وهم مجموعةٌ من المتديّنين الحنابلة الوهابية الذين كانوا يوالون الدولة ولاء تاماً،ولكنّهم يتخذون مواقف متشددة إزاء مسائل التحديث في الدولة والمجتمع. في هذا الجوّ المشحون نشأ وترعرع وكان تأثره الأكبر بمعلمه في المرحلة المتوسّطة محمد سرور بن نايف زين العابدين،المنشق عن «إخوان» سوريا،والذي أسس تيار السرورية، وكان «العودة» معجباً به واعترف بتأثيره عليه في برنامجٍ وثائقي أعده كاتب هذه السطور وتمّ بثه على قناة «العربية». تطوّر طموح «العودة»، فكانت فرصته الذهبية للصعود على سطح الحراك المحلي سعودياً مع حرب الخليج الثانية 1990، فقد كان الشارع السعودي مشحوناً بين مشاعر متناقضة، فثمة شعور بالخطر المحدق وثمة قرارٌ استراتيجي للقيادة السعودية ببناء تحالفٍ عسكريٍ دوليٍ يردّ العدوان، وهو أمرٌ يعجز عامة الناس عن فهم أبعاده، ما ولّد هياجاً في الشارع ورغبة في سماع أي معلومة أو تحليل قد ينقشع به الضباب في مرحلة حرجة من تاريخ المجتمع والدولة. وجد «العودة» فرصته ليصعّد صراعه الشخصي من الصراع مع «إخوان بريدة» إلى الصراع مع الدولة، فانطلق في إصدار كاسيتات سياسية أسبوعية يتحدث فيها في الشأن العام بلغةٍ صاخبةٍ ومواقف معارضة متشددة وبدأ بالتهجم الصريح على الدولة ومؤسساتها واستمر حتى بعد انتهاء أزمة الخليج. كان «العودة» أكثر من أقرانه تأثيراً وانتشاراً، ولم يكن هذا بسبب مضمون كاسيتاته فحسب، بل لأنه كان يؤمن بالعمل المؤسسي والتنظيمي، فكانت ترتبط به شبكة من العلاقات الواسعة وخاصة مع أهل بريدة الذين دعموه بلا حدود، فلم يكن يوماً يجد مشكلةً في تمويل مشروعٍ أو دعم جهة أو شخصٍ ما، ومن ذلك أنّه كان يجمع جميع محاضراته التي كانت بالمئات حينذاك في صندوق يتمّ توزيعه بشكلٍ واسع النطاق مجاناً. انتهى به ذلك الصراع الجديد إلى السجن مع عدد من تلاميذه وأقرانه في منتصف التسعينيات بعد اعتصامٍ لمؤيديه حول منزله ببريده،وأثنى حينها علانيةً على سيد قطب أكثر رموز «الإخوان» تطرفاً، وكان قبلها قد دخل صراعاً مع الوزير والمثقف الوطني غازي القصيبي. بعد ما يقارب الخمس سنوات خرج من السجن بعد تعهدٍ مكتوبٍ، وفوجئ بأنّ ساقية المجتمع قد جرت فيها مياه أخرى، فقد تغيّر المجتمع، وتغيّرت الصراعات الدينية، فكان ثمة تياران حاضران في المشهد الديني: تيار السلفية الجهادية الذي يقوده حمود العقلا وناصر الفهد، وتيار التنوير الذي كان يقدّم طروحاتٍ تنويرية لم يعهدها الوسط الديني السعودي من قبل عبر عدد من الأسماء. التغيير طال «العودة» نفسه، فقد خرج بآراءٍ وتصوراتٍ تختلف كثيراً عن خطابه في سنوات الهياج ما قبل السجن. ضغط عليه رفاق الدرب فسعى لصنع آلته الإعلامية الخاصة، وذلك بإنشائه موقعاً إسلامياً ضخماً على الإنترنت «الإسلام اليوم»، وأتبعه بمجلة ولاحقاً بقناةٍ فضائيةٍ. وبعد الحادي عشر من سبتمبر تبنّى ما عرف بـ «بيان التعايش» الذي كان مختلفاً في خطابه للغرب وفي تعامله مع المثقفين السعوديين من شتى الطوائف والتيارات. ثم ما لبث أن تاب عنه على يد الشيخ المتشدد عبدالرحمن البراك. التغير الأكبر جاء حين التحق بقناة «إم بي سي» التي منحته جمهوراً عربياً عريضاً أراحه من تملّق الجمهور المحلي، فأخذ يطوّر خطابه الفقهي نحو تسامحٍ في مسائل كالمرأة والأعياد المتنوعة كما أبدى تفهماً لسياسات الدولة والدول العربية، واتضح لاحقاً أنه تفهمٌ مشروطٌ باستمرار جماهيريته الجديدة ومشروعه الشخصي وانسداد الأفق السياسي أمام طموحه. وجد «العودة» تنافس جديد مع يوسف القرضاوي الذي سعى لتجاوزه أو اقتسام الكعكة الجماهيرية العربية والإسلامية معه، فأقدم على تغيير مهم في خطابه، فقام بما يمكن تسميته بالمفصل الكبير في تاريخه وذلك حين نشر مقاله «الإسلام والحركات» منتصف 2009 عن تونس، واتخذ فيها موقفين مهمين: مديح الدولة التونسية،التي كان القرضاوي يعتبرها نموذجاً للتطرف العلماني مع نقد تكالب الحركات الإسلاموية على السلطة. كما أثنى ثناءً عاطراً على نظام معمر القذافي في ليبيا وابنه سيف الإسلام. غير أن «العودة» نقض غزله أنكاثاً مع الشرارة الأولى لحرائق ما كان يعرف بـ«الربيع العربي» وبعد إيقاف برنامجه على قناة «إم. بي. سي»، بدأ رحلة الرجوع إلى أحضان الجماعات الإسلاموية، فعاد ليهاجم نظام بن علي في تونس ونظام القذافي في ليبيا مع أن شيئاً لم يتغير فيهما ليغير موقفه، وطغى عليه الطموح الشخصي ووهم انتقال ما جرى في الجمهوريات العربية إلى السعودية فصرّح بالمعارضة من جديدٍ، وحين اكتشف خسارة حساباته السياسية رحل بعيداً إلى جنوب أفريقيا وقضى هناك بضعة أشهرٍ علّ وعسى أن ينسى الجميع تلك التقلبات وأن تتجاوز الدولة عن تناقضاته. لايختلف خطاب «العودة» عن خطابات جماعات الإسلام السياسي ورموزه، فهم لأجل غاية السلطة والتأثير السياسي على استعدادٍ دائمٍ للتقلّب والتغيّر، وعلى أهبة الاستعداد للتلاعب بالمفاهيم والمصطلحات الدينية وتوظيفها لخدمة أجندتهم. أخيراً، فإن «العودة» لولا ظروفه الخاصة واستثماراته لكان ربما قد لحق بإحدى الدول الشقيقة القريبة التي تتبع سياسة جمع رموز الإسلام السياسي وتسليطهم على دول الخليج وحلفائها من الدول العربية.