يعلم أي عارفٍ بالسياسة أن التكتلات والمنظمات الدولية والإقليمية تتشكل عبر التقاء المصالح الغالب، وتسانده المشتركات السياسية والثقافية والاقتصادية، وهو أمرٌ قدّم مجلس التعاون الخليجي أفضل مثالٍ عليه منذ أكثر من ثلاثة عقودٍ كما أثبت المجلس تماسكاً في كل الأزمات التي مرّت به واستفاد من وحدة التوجه الغالبة في مواقفه، ليتجاوز كل المحن، وهو لم يزل الأكثر نجاحاً في المنظمات الإقليمية كالجامعة العربية، أو الاتحاد المغاربي على سبيل المثال. وكان احتلال العراق لدولة الكويت 1990 واحداً من أهم تلك المحن، التي كان لتوحد موقف دول الخليج أثرٌ بالغٌ في تحرير الكويت وضمان استقرار دول المجلس. كان المجلس قادراً على الدوام على احتواء واستيعاب الخلافات البينية بين دوله، وكان أكثر تلك الخلافات يتمّ حله عن طريق الدبلوماسية، ولا يصل لوسائل الإعلام وبعضها الآخر، وإنْ وصل للإعلام، فإنه يجد طريقه إلى الحل. غير أن إحدى دول المجلس وهي دولة قطر الشقيقة قررت منذ عام 1995 أن تتبع طريقاً مختلفاً ظلّ يتصاعد بمرور الوقت، وأخذت في اتباع استراتيجية متكاملة أخذت تنأى بها عن بقية دول المجلس، وكان أشهر دلائل تلك الاستراتيجية تأسيس قطر لقناة «الجزيرة» الإخبارية، وقد أخذت القناة تهاجم الدول الخليجية واحدةً تلو الأخرى، وكان الهجوم الأكبر يتمّ على المملكة العربية السعودية ومعها البحرين والكويت والإمارات العربية المتحدة. وكان واضحاً من إدارة القناة وتوجهاتها وبرامجها، ومن نوعية الموظفين فيها، أنها تستقطب كل معادٍ لدول الخليج، فجمعت أبرز التيارات المعادية لدول الخليج وهي: التيار القومي، والتيار اليساري، والتيار الموالي للجمهورية الإسلامية في إيران، وتيارات الإسلام السياسي والعنف الديني. وقد تطوّر الأمر من الإعلام إلى نشاطاتٍ أكثر توسعاً، فكانت تتدخل في كل مشكلةٍ عربيةٍ، وتتعمد مخالفة مواقف دول المجلس وسياساتها إنْ تجاه «حزب الله» اللبناني، والجنرال عون، وإنْ تجاه القضية الفلسطينية وحركة «حماس» في غزة، وكذلك في السودان واليمن، فهي اختارت عن وعيٍ أن تقف ضد أي توجهٍ سياسي تعتمده دول المجلس، وعلى رأسها السعودية في مشكلات المنطقة. تحمّلت السعودية ودول المجلس كثيراً من أخطاء الشقيقة الصغيرة على أمل أن تعاود رشدها وتعيد حساباتها، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، ومع بدايات ما كان يعرف بـ«الربيع العربي» ازدادت نبرة الابتعاد عن الدول الخليجية. الاستراتيجية التي تبنّتها قطر في احتضان جماعات ورموز العنف الديني والإسلام السياسي منذ منتصف التسعينيات جعلتها تتحول مع الوقت إلى بؤرةٍ يتجمّع فيها من يعادون دول الخليج، ويتمّ الهجوم على هذه الدول برعايةٍ كاملةٍ من الدولة المضيفة، والتفاصيل كثيرةٌ جداً في هذا السياق، وبخاصةٍ بعد أحداث ما كان يعرف بـ«الربيع العربي» وبعد سقوط حكم «الإخوان» بمصر، ومن هنا جاء القرار الثلاثي للسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين بسحب السفراء من الدوحة كخطوةٍ أولى تهدف لاستعادة وحدة الصفّ الخليجي. والشقيق لا يضرّ أشقاءه بلغة الأخوة، والحليف لا يُعادي حلفاءه بلغة السياسة، وفي الدبلوماسية مجالٌ رحبٌ لحماية المصالح، والخيارات متاحةٌ. يمكن تقسيم مرحلة ما بعد «الربيع العربي» لمرحلتين: الأولى: سعت قطر فيها لاختراق الدول العربية عبر حلفائها من رموز وكوادر «الإخوان» والإسلام السياسي، ولكنّها مع نشوتها بانتصارات الإسلام السياسي خضعت لإغراءات انتصار أولئك الحلفاء في الوصول للسلطة في بلدانهم، وبدأت تعمل على اختراق الدول الخليجية بنفس الطريقة، وعبر نفس الحلفاء، فبدأت تستقطب رموز «الإخوان» والإسلام السياسي من دول الخليج وتدعمهم داخل بلدانهم وتشتري الولاءات وتتواصل مع العابثين، وتقيم لهم الصحف والمواقع الإلكترونية وتشيد مراكز الأبحاث وتستقطب الباحثين والصحفيين وتقيم المؤتمرات وترعى الندوات، وتؤيد أولئك في أي عملٍ معارضٍ لبلدانهم. وهي سعت لاختراق الدول الخليجية عبر عدة مؤسسات مثل «الكرامة» و«أكاديمية التغيير» ونحوهما. الثانية: بعد 30 يونيو وإسقاط حكم «الإخوان المسلمين» في مصر، حيث لم تستوعب قطر الصدمة، فأخذت تتخبط ذات اليمين وذات الشمال، وأصابها ما أصاب حلفاؤها في المنطقة، فأخذت تدافع عن الإرهاب والإرهابيين، وتغري أتباعها في دول الخليج بالتصعيد ضد أوطانهم بأساليب مختلفةٍ إنْ عبر تخوين القيادات السياسية في قرارها الاستراتيجي بتأييد استعادة الجيش والشعب المصري لمصر من براثن جماعة «الإخوان» الإرهابية، وإن عبر تصعيد المشكلات الداخلية العادية وتحويلها لأدوات إلهاء و«تشغيب» سياسي. تساءل كاتب هذه السطور مطلع سبتمبر الماضي عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي، هل قطر دولة خليجية؟ وكان تساؤلاً مشروعاً نظراً لسياساتها المعلنة. لقد كانت علامات الاتجاه المعاكس لدول الخليج تتجلى بكل وضوحٍ وتعجلٍ لا يخلو من الاضطراب الناتج عن الصدمة، «وللأسف لم تستفد قطر من الدرس، لقد انهار المشروع وتهشم الحلم وذهبت الأوهام أدراج الرياح وبقيت الحقائق على الأرض تتحدث»، فقد وقفت دول الخليج بكل قوةٍ مع مصر المنعتقة من الأصولية والإرهاب، «وبدا واضحاً أن السعودية والإمارات ومصر ومعهم الكويت والبحرين يشكلون تكتلاً إقليمياً مظفراً بالنصر ويمتلك زمام القوة والمبادرة وصفاء الرؤية والثقل الدولي». وكان مما كتب حينها هو أنه «وحين تختار قطر معاداة هذا التكتل فعليها أن تعي العواقب التي يمكن أن تحدث والعاقل خصيم نفسه، هناك الكثير من السياسات والقرارات التي يمكن أن يكون لها تأثير بالغٌ على قطر فيما لو أصرت على معاداة دول الخليج» وكان يحدو ذلك الحديث أملٌ في أن يكون ثمة تغييرٌ ما يعيد قطر إلى عمقها الاستراتيجي في دول الخليج لا في تركيا ولا جماعة «الإخوان»، وكان من السهل معرفة أن أمراً ما ستتخذه هذه الدول لحماية دولها وشعوبها من الصديق الذي أصبح لدوداً، ولكن يبدو أن أحداً من الأشقاء في قطر لم يعر تلك الأسئلة والتحذيرات التي أطلقها عديدون أذناً واعيةً. الشعب القطري شعبٌ خليجيٌ لا يختلف عن غيره من أشقائه، ولكنّ السياسات لا تقوم على العواطف، بل على القرارات ولا تتحرك عبر الكلمات المعسولة التي تقال في المجالس المغلقة بل عبر الاستراتيجيات والمواقف التي تتخذها القيادات السياسية. أخيراً، فإن قرار سحب السفراء خطوةٌ أمامها سبيلان تختار الشقيقة قطر بينهما: أن يكون قراراً يتيماً يتم الرجوع عنه، أو أن يكون قطرةً في بحرٍ قادمٍ. ويظلّ الأمل في انتصار الحكمة والتعقل.