يبدو أن العراق في طريقه إلى التداعي والانهيار، فتنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين» الذي أعاد تسمية نفسه بـ«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، بات يمثل تهديداً خطيراً على البلد وسائر المنطقة، فيما لن تستطيع بغداد أو واشنطن إزالة هذا الداء بالوسائل العسكرية منفردة، بل لا يمكن استئصاله إلا بالعمل مع السكان السنة الذين إما يؤوون عناصر «داعش» أو يتسامحون معها لأنهم يُنظر إليها، عن خطأ، على أنها مصدر الخلاص الوحيد من حكومة مركزية مقيتة وقمعية. وإذا كان السنة لا يمكنهم السيطرة مجدداً على العراق، فإنهم مصرون على وضع حد لسياسة التمييز ضدهم. فمنذ مجيئه للسلطة ورئيس الوزراء، نوري المالكي، يتعامل مع العملية الانتخابية في ظل النظام الديمقراطي الوليد بالعراق على أنه معادلة صفرية يحصل فيها الفائز على كل شيء، فيما يتشكل لدى السنة شعور طاغ بأنهم الخاسر الأكبر. كهذا ناهيك عن تسييس المالكي للمؤسسات الحيوية، بما فيها الجيش الذي انهار بقيادته الفاسدة وبضباطه غير المؤهلين بعد زحف قوات «داعش». لذا لن ينفع في شيء تخصيص المزيد من الموارد المالية لقوات على هذا النحو إذا لم تخضع لإصلاحات مهمة. أما دحر المتطرفين وضرب «داعش» فلن ينجح إلا بإشراك السنة في حكومة وحدة وطنية جديدة ونزيهة لا تعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وأي سياسة أميركية تجاه العراق يجب أن تأخذ في الاعتبار هذا المعطى. وفي هذا السياق تتعين الإشارة إلى مجموعة من الحقائق حول العراق ينبغي ألا تغيب على أعين صناع القرار الأميركيين، ولعل أهمها أن أغلب العراقيين ينظرون إلى أنفسهم كعراقيين أولا وقبل كل شيء، وحتى في خضم الاستغلال السياسي للمسألة الطائفية والاستقطاب المذهبي الحاد، فإن الأمر ما زال تحت السيطرة والوقت ما زال متاحاً لإخماد الفتنة الطائفية. ورغم مخاوف البعض من حنين السنة، وبعض ضباط النظام السابق، إلى حزب «البعث» البائد وعهد صدام حسين، فإن الأمر لا يعدو كونه مبالغات. فلا ننس أن العدد الكبير من ضباط حزب «البعث» وكوادره كانوا مضطرين للانتساب إليه لتعزيز مسارهم المهني ولا علاقة لهم بمبادئه. كما أن «البعث»، ورغم كل الفظاعات التي ارتكبها، ظل على الدوام حزباً علمانياً ونقيضاً موضوعياً للدولة الإسلامية. ولعل التقارير الأخيرة التي تشير إلى إقدام التنظيم المتطرف على إعدام ضباط سابقين في الجيش العراقي، خير دليل على هذا التناقض. وكما أن القول برغبة السنة في عودة «البعث»، أو انتسابهم إلى «داعش» مجرد أسطورة تخدم المالكي، فإن القول أيضاً بأن الشيعة العراقيين موالون لإيران هو أيضاً أسطورة يروج لها خطأ بعض السنة. فمعروف أن آلاف الشيعة سقطوا في الحرب العراقية الإيرانية خلال الثمانينيات. وفيما يواصل المحللون الحديث عن «حكومة وحدة وطنية» باعتبارها الحل الأمثل للأزمة العراقية الراهنة، فإن هذه المقاربة أثبتت فشلها مسبقاً، فعلى مدار السنوات العشر الأخيرة تشكلت في العراق حكومات محاصصة طائفية تضم مختلف المكونات، لكن الوزارات التي تولتها الأحزاب الإسلامية الشيعية أُغرقت بالموالين، لتتحول إلى مجرد واجهات صورية. والأمر نفسه ينطبق على القوات المسلحة والجامعات والإعلام، وباقي المؤسسات التي يفترض أن تكون مستقلة. وبدلًا من حكومة الوحدة الوطنية التي أثبتت فشلها، يجب تشكيل «حكومة إنقاذ وطني» يقودها رئيس وزراء مقبول لدى جميع المكونات ومحاط بآليات المراقبة والمحاسبة، لضمان ألا يجنح النظام السياسي نحو التمييز، على أن تقطع هذه الحكومة مع مظاهر الطائفية وتنبذها. ولأن النظام السياسي الحالي لا يستطيع إصلاح نفسه من الداخل، فلا مناص من جلب كفاءات مهنية من خارجه. لكن يبدو أن إيران لن يروقها مثل هذا الحل، وهي تسعى بكل الطرق لعرقلته. فقد أفادت التقارير من داخل الحكومة العراقية بأن إيران رفضت كل الشيعة المرشحين لتولي منصب رئيس الحكومة، والذين يلاقون موافقة السنة أو العلمانيين، وهو ما يعني أن الأزمة ستستمر، وأن الفتنة التي كان يمكن إخمادها عبر حل سياسي عراقي ستبقى مشتعلة لفترة طويلة، ليظل السؤال ما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لبذل ما هو ضروري لكي يتمكن العراقيون من بلوغ حل سياسي بعيد عن العراقيل الإيرانية. فلو تُرك العراقيون لتدبر أمورهم والبحث عن حلول لأمكنهم ذلك، لكن التدخل الإيراني يقف حجرة عثرة في وجه التوافق السياسي، بحيث يريد الجميع في المنطقة التأثير على مجريات الأحداث في العراق، وإن كانت إيران وحدها من تريد عرقلة التفاهم السياسي الذي يأتي بالسنة إلى داخل الخيمة العراقية. والحال أن هذه الهيمنة العراقية على بغداد يتعين كسرها، وإلا فسيسقط جزء مهم من العراق بموارده النفطية الهائلة تحت السيطرة الإيرانية ويتحول إلى دولة تابعة لطهران. وباختصار يتعين على الولايات المتحدة القطع نهائياً مع المالكي. ولمواجهة إيران، يجيب عليها أيضاً تعيين مبعوث أميركي مخضرم وكفء يتمتع بصلاحيات واسعة في العراق، لتكون مهمته فتح قنوات الحوار مع القادة الشيعة والسنة، وإقناع العشائر السنية -من خلال ضمانات عملية- بأن أميركا لن تتخلى عن مبدأ إدماجهم في النظام السياسي. وأخيراً ما زال الوقت متاحاً لإنهاء الأزمة العراقية، فرغم خطورة «داعش»، إلا أنها مجرد عرض لمشكلة عميقة تتمثل في سيطرة مجموعة طائفية على السلطة في بغداد وإجهاضها للعملية الديمقراطية الوليدة لمصلحتها، وبسبب ذلك ما زال السنة الذين لا قواسم مشتركة لهم مع «داعش»، غير مقتنعين تماماً بضرورة التخلي عنها ووقف دعمها، وهو ما يتعين تغييره وبسرعة. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»