في الوقت الذي نتدبر فيه الطريقة الأمثل للرد على كوريا الشمالية للاعتقاد بتورطها في اختراق شبكات الكمبيوتر الخاصة بشركة «سوني» الأميركية، يظل الاقتراح الأقرب إلى الأذهان هو تشديد العقوبات على ذلك البلد. والحال أنه أثناء زياراتي المتعددة إلى بلدان مستهدفة بالعقوبات، وقفت على الكيفية التي تلحقه بها هذه الاستراتيجية أفدح الأضرار بالناس الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالنزاعات الدولية، والذين يعانون أصلا تحت الأنظمة الشمولية، يضاف إلى ذلك أن فرض حصار اقتصادي على أنظمة بغيضة غالباً ما لا يكون فعالاً وقد يأتي بنتائج عكسية. ففي كوبا مثلا، حيث تخضع وسائل الإعلام للسيطرة الحكومية، يعتقد العديد من الناس أن مشكلاتهم الاقتصادية من صنيع الولايات المتحدة، وأن حمايتهم يكفلها قادة النظام الشيوعي الذين تتعزز قبضتهم على السلطة. وشخصياً قمت بزيارة لمنزلي الأخوين كاسترو وبعض كبار المسؤولين الكوبيين، لألاحظ أن ظروفهم المعيشية لم تتأثر جراء الحصار الاقتصادي، فيما تعاني العديد من الأسر الكوبية الحرمان من الأغذية، بالإضافة إلى غياب الإنترنيت والحريات الأساسية، وإن كانوا يستفيدون من تعليم ورعاية صحية جيدين. لكن المشكلة الأكبر في كوريا الشمالية، حيث لا وجود لأي من الأمور الأنفة، فالحصار المفروض على بيونج يونج منذ 64 سنة هو أكثر تشدداً في تطبيقه ويضع قيوداً صارمة على اقتصاد البلاد. وخلال زيارتي لكوريا الشمالية أجريت محادثات مستفيضة مع المسؤولين الحكوميين ومع أشخاص عاديين أكدوا وجود مجاعة بين الناس، كما أكدها برنامج الغذاء العالمي بإشارته إلى أن نسبة ما يحصل عليه المواطن الكوري من الحبوب لا تتعدى 128 جراماً في اليوم، في حين أن الحصة المطلوبة لاستمرار الحياة هي 600 جرام. وأفاد موظفو الكونجرس الذين زاروا البلاد في عام 1998 أن عدد الذين يموتون سنوياً بسبب المجاعة يتراوح بين 300 و800 ألف. وللتخفيف من هذه المعاناة رتب مركز كارتر في 2001 زيارات لمسؤولين في القطاع الزراعي من كوريا الشمالية للمكسيك للاستفادة من خبراتهم الزراعية، فيما ارتفعت المساهمة الأميركية من الحبوب خلال التسعينيات إلى 695 ألف طن، لكن مع الأسف خُفضت النسبة على نحو كبير خلال رئاسة بوش وأوقفت تماماً بعد مجيء أوباما للبيت الأبيض! وعندما حاولت معرفة السبب في لقاء لي مع مسؤولي وزارة الخارجية أُخبرت أنه رفض كوريا الشمالية الترخيص بمراقبة توزيع المساعدات الغذائية ووصولها إلى مستحقيها. وفي 2011 عدت إلى كوريا الشمالية مصحوباً بمجموعة من زعماء العالم وقادته السابقين، وبمسؤولين من برنامج الغذاء العالمي، حيث ذهبنا إلى مناطق ريفية، وتمكنا حينها من الحصول على ضمانات من نظام بيونج يونج بإمكانية خضوع عملية توزيع الغذاء للمراقبة الأميركية، وهو ما أبلغته للمسؤولين في واشنطن مع تقييم صادم يفيد بأن ثلث أطفال كوريا الشمالية يعانون سوء التغذية وبطئا في النمو، حيث لا تتعدى نسبة السعرات الحرارية اليومية التي يحصلون عليها 1400 سعرة وقد تنخفض إلى 700. ومع أن النظم الديكتاتورية لا تحتاج لذرائع حتى تقمع الشعوب وتسيء معاملتها، فإن جزءاً من ممارسات الأنظمة القمعية يرجع إلى مدى ودرجة استياء المواطنين، فكلما احتج الناس وأعربوا عن معارضتهم بسبب سوء ظروفهم المعيشية اليومية، كما هو الحال في كوريا الشمالية، زاد قمع النظام واشتدت وطأته لتصل أحياناً إلى الإعدام. وعلى غرار القيادة السياسية في كوبا، لا يعاني المسؤولون في بيونج يونج أية مشاكل، فيما تُحمل وسائل الإعلام الدعائية مسؤولية الصعوبات والحرمان للولايات المتحدة. وإذا كان الهدف الأساسي للأنظمة الديكتاتورية هو البقاء في السلطة، فنحن من خلال سياسة العقوبات الاقتصادية، نساعدهم في ذلك، لأننا نعاقب الشعب المقموع أصلاً ونصور الأنظمة على أنها المخلص. أما عندما يثبت أن الضغوط غير العسكرية ضرورية فلابد أن تستهدف العقوبات الاقتصادية قطاعات وشرائح معينة، مثل حظر السفر على المسؤولين، وتجميد الحسابات البنكية، بالإضافة إلى امتيازات مادية أخرى يستفيد منها المسؤولون الذين يتخذون القرار مع الابتعاد كلياً عن تدمير الاقتصاد الذي تعتمد عليه الشعوب المضطهدة. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيج نيوز سيرفس»