خضعت الدولة الوطنية منذ نشأتها في العالم العربي لعمليات تحديث واسعة، كان من نتائجها حدوث تحولات قيمية واجتماعية في المجتمع، ولا شك في أن هذه التحولات اتسع مداها مع بدء تشكل ظاهرة العولمة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. ومن الملاحظ أن تلك التحولات أثّرت فيما يسمى «الحقل الديني»، أي النظرة إلى الدين ودوره في حياة الفرد والمجتمع، وأنماط التدين. وبينما جرت في عدد من الدول العربية دراسات سوسيولوجية وأنثروبولوجية لبحث التحولات في الحقل الديني، فإن مثل هذه الدراسات غابت - أو كادت - عن منطقة الخليج في العموم. ولمحاولة سد هذا الفراغ بادر «مركز الإمارات للسياسات»، الذي أتشرف برئاسته، إلى إجراء مسح علمي في شهر مارس الماضي على عينة ممثِّلة لمواطني الدولة شملت الإمارات السبع، لقياس القيم الدينية واتجاهات التدين في المجتمع الإماراتي. وتكمن أهمية موضوع المسح في أن القيم الدينية تُعد أحد أهم مكونات المنظومة القيمية، نظراً لما للدين من تأثير في حياة الإماراتيين، والعرب المسلمين بشكل عام، كما أن المجتمعات العربية تشهد جدالاً مستمراً حول دور الدين في المجال العام، ولا شك في أن هذا الجدال تصاعد عقب اندلاع ما يسمى انتفاضات «الربيع العربي». وتوصل المسح إلى نتائج لافتة، سأشير إلى بعضها في هذه المقالة المختصرة، لأنطلق منها للتأكيد على السياسات المطلوبة لرعاية القيم الدينية في المجتمع الإماراتي. تعدد الخطابات الدينية أولاً: من الظواهر التي عرفتها المجتمعات العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، تعدد الخطابات الدينية وضعف تمثيلية المؤسسات الدينية، التاريخية والرسمية، فبينما كان الخطاب الديني في المجتمعات العربية قبل عصر الدولة الوطنية أحادياً تقليدياً، والتعدد ضمنه ينحصر ضمن إطار المذهب، وكانت تمثله –في المجال السُّني على الأقل– المراكز العلمية العريقة مثل الأزهر والقرويين والزيتونة، ثم المرجعيات والمؤسسات الدينية الرسمية التي تشكلت ضمن هياكل الدولة الوطنية، مثل هيئات الأوقاف والشؤون الإسلامية ومراكز الإفتاء والإرشاد ودُور العبادة، فإنه، لاحقاً، جرى «أدْلَجة» الدين، ليبرز الإسلام السياسي والإسلام الجهادي ثم الإسلام السلفي-الجهادي، وأصبحت لهذه الأيديولوجيات أجهزة لإنتاج الخطاب الديني «الانشقاقي والتحريفي»، أي مؤسسات وعلماء دين ومُفتين وأدبيات وحتى مساجد خاصة بها. إلخ، الأمر الذي أدى إلى عجز الدولة عن التحكم في المجال الديني. وبينما لاحظت دراساتٌ انحسارَ الثقة في المؤسسة الدينية التقليدية والرسمية في العالم العربي والإسلامي، نجد أن الاستطلاع الذي أجراه مركز الإمارات للسياسات على مواطنين إماراتيين، أثبت أن المؤسسة الدينية في الدولة تحظى بثقةٍ ورضا عالٍ، إذ رأى 93.3% من المُستطلَعين أنها تقدم فهماً أفضل للإسلام، وأفاد 92.9% أنها تقوم بدورها في توضيح الأمور الأساسية في الدين، كما اتفق 85% من المُستطلعين أن المؤسسة الدينية تقوم بترسيخ الوعي الديني، وأيّد 84% أنها تقوم بالمساهمة في الوقاية من المشاكل والآفات الاجتماعية. وهذه المؤشرات دليل على أن المؤسسة الدينية الرسمية تضطلع بدورها الحقيقي في الإمارات. «التدين الجماعي» ثانياً: من التحولات في أنماط التدين التي ألقت عليها دراساتُ سوسيولوجيا الدين الضوءَ، الانتقالُ في الوعي والسلوك الدينيَّين من الاقتناعات/المسلكيات المتعارف عليها في المجتمع (أي ما يسمى «التدين الجماعي»)، إلى اقتناعات/مسلكيات أخرى مستمدة من مجموعات ضيقة تميل إلى التعصب والتشدد (كالجماعات الدينية الراديكالية)، أو أن يصبح الفرد مرجعاً لنفسه في الاستمداد والممارسة الدينيّيين (ما يسمى «التدين الفردي»)، إلا أن المجتمع الإماراتي لم يشهد مثل هذا التحول، فظل «التدين الجماعي» هو السائد في الإمارات، وهو تدين يتسم بالوسطية والاعتدال. وهذا ما أكده الاستطلاع الذي أجراه مركز الإمارات للسياسات، فقد عبّر 61.2% من أفراد العينة التي أجري عليها الاستطلاع عن ميل متوسط إلى التدين. وكشف الاستطلاع أيضاً عن أن الالتزام الديني الفردي بالعبادات هو من خصائص المجتمع الإماراتي، إذ بلغت نسبة الملتزمين بأداء الصلوات الخمس 87.8%، أكثر من نصفهم يؤديها جماعةً في المسجد (46.6%). ثالثاً، تطرقت الدراسات التي تناولت التحولات في الوعي الديني إلى مسألة مدى قبول الآخر المختلف دينياً، كمؤشر على هذه التحولات، ووجدت دراسات عدة أن مؤشر التسامح وقبول الآخر يقل عند «المؤدلجين» دينياً مقارنة بالمتدينين العاديين. وقد دَرَج سياسيون ومراقبون وباحثون على الإشادة بقيمة التسامح وقبول الآخر لدى الشعب الإماراتي، مستدلّين على ذلك بانفتاح الإماراتيين منذ ما قبل تأسيس دولة الاتحاد على الشعوب والأديان الأخرى، واحترامهم لتجاور ثقافات الآخرين وعاداتهم في الدولة، ما دامت لا تمس ثقافة المجتمع الإماراتي وقيمه، فضلاً عن وجود معابد الأديان الأخرى على أرض الدولة منذ عشرات السنين، وهو أمر تتميز به الدولة على مستوى منطقة الخليج برمتها. ولا شك في أن انتشار قيمة التسامح يعد من الأسباب المهمة لوجود العالم بتنوعه داخل دولة الإمارات، إذ تضم الدولة مواطنين من أكثر من 200 جنسية. وإدارة مثل هذا التنوع الهائل، مع الحفاظ على الثقة والتعايش والتواصل الإيجابي، دفعت الدولة إلى تبني مبادرة غير مسبوقة في المنطقة والعالم، تبدت بإنشاء وزارة خاصة للتسامح. ولقياس قيمة التسامح داخل الدولة، طرح الاستطلاعُ سؤالاً عن مدى قبول الإماراتيين لمجموعة من أصحاب الديانات الأخرى كجيران لهم، فكانت النتيجة أن 63.8% من المستطلَعين لا يمانعون في ذلك. وتفصيلاً لهذه النتيجة، نجد أن المسيحيين هم الأكثر قبولاً بين الديانات والمذاهب، وهذا بنسبة 76.1%، تليها الديانات الأخرى بنسبة 63.4%. وهذه النسبة المرتفعة دليل على أن التسامح الذي عُرف به المجتمع الإماراتي تاريخياً مازال قيمة سائدة في المجتمع. صحيح أن نتائج الاستطلاع، الذي أجراه مركز الإمارات للسياسات، أثبتت أن للدين مكانة عالية في الحياة الخاصة، وأن التدين الغالب في المجتمع مازال هو التدين الوسطي (التقليدي)، وأن الممارسات الدينية تنتمي إلى «التدين الجماعي»، وأن المرجعيات والمؤسسات الدينية الرسمية تحظى بثقة الناس، إلا أن هذه النتائج الإيجابية يجب ألا تجعلنا نشيح النظر عن التأثيرات في القيم الدينية التي قد تمس الأجيال الناشئة في دولة الإمارات، ومنطقة الخليج بشكل عام، نتيجة للتغيرات التي قد تحصل في الهوية والبنية الثقافية للمجتمع بسبب موجة التحديث الجديدة في هذه المجتمعات. فالشباب كانوا يعتمدون في استمداد قيمهم واتجاهاتهم وسلوكياتهم الثقافية من الأسرة والمدرسة والمسجد، إلا أن هذا العصر يتسم بتوافر وتعدد وانفتاح مصادر الثقافة، ما يعني أنه يمكن للشاب أن ينتج ثقافته الخاصة، وأن يحلّق فيها بعيداً عن ثقافة المجتمع. دور الأسرة ورعاية الشباب ومع تقديري للمبادرات التي اتخذتها الدولة لحماية القيم الدينية للمجتمع من خلال تطوير التعليم الديني الذي يتلقاه النشء في المدارس والجامعات والمساجد، وتنقيته من أفكار التعصب والتشدد، وتفعيل دور المؤسسات الدينية في الدولة، وإطلاق منظومة قانونية لمكافحة التعصب والتطرف والحض على الكراهية، فإن هناك عنصرين يجب أن تُوليهما الدولة اهتماماً أكبر في هذا السبيل: الأول: الأسرة، إذ إن الأسرة تُجسد مصدر الإشباع العاطفي والمنهل القيمي الأول للفرد، ولا تستطيع مؤسسة اجتماعية أن تعوض عن الدور المفقود للأسرة في التنشئة النفسية والقيمية، وحتى تقوم الأسرة بالدور المنوط بها والمطلوب منها في آن، ينبغي أن تتسم بالوعي والتماسك الداخلي، وأن يكون دورها متكاملاً مع مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى، مثل المدرسة والإعلام، ومتناغماً مع رسالة الدولة. وقد لاحظت الدراسات التي أجريت على الشباب الذين جَنَحوا نحو أفكار التطرف والإرهاب أن معظم هؤلاء إما نشأوا في أسر متطرفة دينياً أو في أسر مفككة اجتماعياً. وأعتقد أن ما حَفَظ المجتمع الإماراتي من انتشار أفكار الغلو والتطرف هو استمرار مكانة الأسرة فيه. الثاني: فاعلية الشباب المجتمعية، إذ إن تصريف طاقات الشباب إيجابياً في المجتمع، من خلال تقوية حضورهم في «الحيز العام» وتعزيز أدوارهم ومشاركتهم في المجتمع، يحصّن الشباب ويحميهم من التأثيرات القيمة والفكرية السلبية. إن هذا الأمر يتطلب تغيير استراتيجية التعامل مع الشباب، من التعامل معهم كمجرد «مُتأثِّر» و«مستهلك» إلى «فاعل» و«مُنتج». وفي هذا الشأن أيضاً، يجب الاهتمام بتنمية الثقافة الحقيقية لدى الجيل الصاعد للتعويض عن «الفراغ الفكري» الذي قد يعانيه، فللثقافة دور محوري في الوقاية من التطرف ومواجهته، فالمنتوج الثقافي المتنوع من آداب وفنون، وذو المحتوى الهادف والممتع في آن، يوفر للشباب آفاقاً تُثريهم عقلياً وقيمياً وإنسانياً، ما من شأنه أن يَقيهم ولو بطريقة غير مباشرة من أفكار التعصب والكراهية والإقصاء. وأخيراً، إنْ كانت دولة الإمارات سعت في السنوات الأخيرة إلى الحفاظ على مبادئ الدين ورسالته، نتيجة لانتشار الدعوات «الأيديولوجية» التي اختطفت روح الإسلام وسماحته، وحوّلته من كونه مصدر توحيد وتآلف وتآخٍ بين المسلمين إلى مصدر للشِّقاق والتقاتل ونشر الكراهية، فَرَعت إنشاء مؤسسات مثل «منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة» و«مجلس حكماء المسلمين»، فإن الإمارات مدعوة أيضاً إلى تعزيز دورها التنويري وإشعاعها الثقافي المتزايد في العالم العربي والإسلامي، من خلال رعاية مشروع فكري إصلاحي تُعيد به ما انقطع في إثر توقف عصر التنوير العربي بسبب تمدد الأصوليّات الدينية. *رئيسة «مركز الإمارات للسياسات»